آية وتفسير

(قبس 47 ) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)([1])

[الأنعام/94]

محورية التوحيد:

قال تعالى في سورة الأنعام (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) (الأنعام/94).

سورة الأنعام: من السور المكية وهي سورة جليلة غنية بالمعارف الالهية الموصلة الى الحقيقة التي خلقنا من أجلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات : 56] وفسرها الامام عليه السلام بقوله ( ليعرفون).

فتتحدث السورة عن محورية التوحيد وتذكر الادلة عليه وتحتج على المشركين وتبطل عقائدهم وتشرح حقائق المبدأ والمعاد. وقد وردت في فضلها أحاديث كثيرة([2])، منها ما رواه الشيخ الكليني قدس سره في الكافي بسنده عن الامام الصادق عليه السلام قال: (إن سورة الأنعام نزلت جملة، شيّعها سبعون الف ملَك حتى انزلت على محمد صلى الله عليه واله وسلم فعظِّمــوها وبجِّلــوها، فان اسم الله عـز وجـل فيهـــا فـــي

سبعيــن موضعــاً، ولو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها).

وفي كتاب المصباح للكفعمي عن النبي صلى الله عليه واله وسلم: (من قرأها من أولِّها الى قوله (تكسبون) – نهاية الآية الثالثة – وكّلَ الله به اربعين الف ملَك، يكتبون له مثل عبادتهم الى يوم القيامة) وغيرها من الأحاديث الكثيرة في آثار السورة المعنوية والمادية في سعة الرزق وشفاء الامراض والنجاة من النار.

 

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا):

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا) تأكيد بعد تأكيد باللام (وقد) واستعمال الفعل الماضي لبيان حقيقة يفترض أنها مستقبلية إلا ان الحديث عنها بالماضي لتأكيد حصولها وكأنها أمر واقع مفروغ منه (جِئْتُمُونَا) أي عدتم الينا بعد أن أخذتم فرصتكم في العمل والحياة بحرية في الدنيا وكلنا عائدون الى الله تعالى (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (العلق/8) (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) (البقرة/156)، والخطاب من الله تبارك وتعالى الى عباده مباشرة عند الموت حيث ينتقل الانسان من عالم التكليف الى عالم الجزاء او عند البعث يوم القيامة وقد يكون الخطاب من الملائكة الى الناس عند قبض أرواحهم مؤدين عن الله تعالى.

 

(فُرَادَى):

(فُرَادَى) أي وحداناً مجردين عن كل شيء مما كان لكم في الدنيا فلم تصحبوا معكم القوة البدنية ولا المال ولا الاولاد ولا الشهادات ولا العناوين ولا المناصب ولا الجند والاعوان والسلاح وكل أسباب القوة مما كنتم تتباهون وتتبجحون به في الدنيا فلم يبق منها شيء يصحبكم الى ما بعد الموت.

 

(كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ):

(كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) كما كنتم فرادى مجردين من كل شيء حينما خلقناكم في بطون امهاتكم مع فرق انكم حينما خُلقتم كان لكم أبوان يتولان رعايتكما أما في الاخرة فتواجهون مصيركم وحياتكم بمفردكم.

 

(وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ):

(وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ) خلفتم وراء ظهوركم ما خولناكم التصرف به في الدنيا مما ذكرنا آنفاً حيث كنتم تتوهمون أنكم تملكون شيئاً وفي الحقيقة فأنكم لا تملكون شيئاً وإنما الملك الحقيقي لله تبارك وتعالى وقد خولّكم وأوكل اليكم التصرف في بعض ما أعطاكم في الدنيا من اموال وغيرها وقد رسم منهجاً وصلاحيات للعمل وفق هذا التخويل فمنكم من التزم بحدود التخويل ومنكم من خالف وبدرجات متفاوتة للفريقين وبالموت انتهى هذا التخويل فعادت الأمانة الى اهلها ولم تأخذوا معكم إلا اعمالكم الصالحة او السيئة ولم يبق لكم إلا كيفية تصرفكم في ما خولكم الله تعالى. فإن كان صالحاً أنتفعتم به نفعاً حقيقياً، وإن كان التصرف سيئاً بقيت تبعاته وآثامه وانتقلت الأموال والعقارات وغيرها الى الورثة فينطبق عليهم ما ورد في الدعاء (إلهِي ذَهَبَتْ أَيامُ لَذَّاتِي وَبَقِيَتْ مَآثِمِي وَتَبِعاتِي)([3]). اما المؤمنون المطيعون فينطبق عليهم (ذهب العناء وثبت الاجر بفضل الله تعالى).

ولاحظ هنا المقابلة بين هذه الآية وقوله تعالى (وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ) (البقرة/110) فعبَّر عن الاعمال الصالحة وحسن التصرف بما خولّه الله تعالى بالتقديم لأنه يقدّمه امامه ويتزود به ليوم الحساب (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) (البقرة/197) فهو يعّمر به آخرته التي يتحول اليها، فهؤلاء لا يأتون فرادى، قال تعالى (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/88-89) أما من أساء التصرف فيما خوّله الله فقد وصفه بأنه تركه وخلفّه وراء ظهره لأنه بعثره في دار الدنيا ولم يستفد منه في الآخرة وإنما سبب له العقاب والعذاب فهذه الآية خطاب للفاسقين والكفار والمنافقين.

 

(وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ):

وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ) كانت لكم في الدنيا زعامات وقيادات وآلهة صنعتها أوهامكم واهواءكم وتعصباتكم وخدعوكم بها تطيعونها وتضحّون من أجلها من دون أن تفكروا في كونها مع الحق أو غير ذلك وهل في اتباعكم لها رضا الله سبحانه أم لا، لكنها اليوم ليست معكم (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء) وهي لا تستحق أن تطاع او تتّبع لأنها مزيفة صنعها الاعلام او المال او المكر والخداع أو سدنة المعابد المستفيدون منها فقد كنتم تظنون انها ستشفع لكم وتنصركم وتنجيكم ولكن خابت ظنونكم.

 

(لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ):

(لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) فانقطعت تلك العلائق والمودة والالفة والاواصر القوية بينكم وظهر عجزكم عن نصرة بعضكم البعض وانفرط العقد الاجتماعي الذي بينكم لأنه ليس مبنياً على أساس صحيح ورجعتم الينا وحداناً.

 

(وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ):

(وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) ضاعت أحلامكم وأمانيكم وعقائدكم الفاسدة وتبّين أن الاسباب التي كنتم تتوسلون بها وتعتمدون عليها وتظنون أنها تدبر أموركم وتقضي حوائجكم سراب وخيال سواء كانت آلهة وأصنام من الحجارة والخشب أو رموز بشرية من زعامات دينية أو سياسية أو اجتماعية أو فكرية أو أهواء اتخذتموها الهة تطيعونها وتعبدوها من دون الرجوع الى حكم الله تعالى وشريعته, وضيّعتم أنفسكم وصارت عاقبتكم الخسران وظهر أمامكم ان الحق هو ما أخبركم الله تعالى به.

 

استيقظوا من الغفلة:

هذه الصورة التي تعرضها الآية لمشهد من مشاهد الآخرة اريد منها إيقاظ الانسان من غفلته حتى يحسب الامور بدقة (وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (الحشر/18) قبل ان تصحو على هذه الحقيقة {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق : 22] وكان عليك قبل الان في الحياة الدنيا ان يكون بصرك حديداً وتدرك هذه الحقائق لتتدارك نفسك وتصلح حالك، اما انكشاف الحقيقة بعد الموت فانه بعد فوات الاوان على النفس ولا ينفعها الندم والحسرة.

ففي الآية موعظة وإرشاد الى اختيار القيادة الحقة التي توصلك الى الله تعالى وتدعوك الى التمسك بمنهج النبي محمد وآله الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) والى صرف الجهود في إكتساب ما ينفع يوم القيامة ويحقّق الفوز والفلاح وعدم تضييع العمر في تحصيل الأمور التي لا قيمة لها في الآخرة (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً) (الفرقان/23) .

ايها الشباب أنكم في بداية طريق المسؤولية وتحّمل التكاليف الإلهية فالتفتوا الى هذه الحقيقة وابنوا مستقبلكم على أسس صحيحة .

([1] ) من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد كبير من الطلبة والشباب المنتظمين في الدورة الدينية والاخلاقية للعطلة الربيعية من مختلف محافظات العراق يوم الاحد 27/ربيع2/1437 الموافق 7/2/2016

([2] ) راجع البرهان في تفسير القرآن :3/310.

([3] ) ملحق الباقيات الصالحات في كتاب  مفاتيح الجنان وهو دعاء شريف يدعى به في صلاة الوتر .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى