آية وتفسير

(قبس 39 ) ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ

بسم الله الرحمن الرحيم

(ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ)([1])

        [التغابن : 9]

من أسماء يوم القيامة:

ليوم القيامة أسماء عديدة في القرآن الكريم كيوم الدين ويوم الحسرة والندامة ويوم الفصل ويوم الذهول ويوم الزلزلة ويوم الجمع ويوم الورود ويوم النشور ويوم الحشر ويوم البعث ويوم الحساب والصاخّة والطامة الكبرى، وهي أسماء مشتقة من صفات ذلك اليوم المهول وخصائصه وما يجري فيه، ومن تلك الأسماء يوم التغابن، قال تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) (التغابن/9).

والغبن (أن تبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإخفاء)([2]) فالبائع إذا أحسّ أنّه باع بأقل من استحقاق الشيء كان مغبوناً، وإذا شعر المشتري أنّه دفع أكثر مما يستحق الشيء كان مغبوناً.

 

المعاملة المغبونة والفائزة يوم القيامة:

فما هي المعاملة التي سيظهر فيها الغبن يوم القيامة؟ والجواب أنّها الصفقة التي عقدها الله تعالى مع عباده حينما جمعهم في عالم الذر (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف/172) فأخذ تعالى العهد على عباده أن يعبدوه ويطيعوه ولهم جميع ما في الأرض على أن يسيروا وفق منهجه الرباني، ولهم بذلك الجنّة التي عرضها السماوات والأرض.

هذه الصفقة أشير إليها في القرآن الكريم كثيراً كقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ) (البقرة/207) (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة/111).

فمن وفى بهذه الصفقة ونال جزاءه الأوفى فهو الفائز، وأمّا المغبون فهو من لم يلتزم بتعهداته في تلك الصفقة وأضاعها وأضاع تلك المبايعة، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) (آل عمران/77)، روي عن أمير المؤمنين (ع) قوله: (المغبون من باعَ جنّة عليّة المرتبة بمعصية دنيّة)([3]) وعنه (ع): (المغبون من شُغِل بالدنيا، وفاته حظّه من الآخرة)([4]) وعنه (ع): (من باع نفسه بغير نعيم الجنة فقد ظلمهـا)([5]) وعنـه (ع): (المغبـون مـن غبــن نفسـه مــن الله)([6]) وعنه (ع): (المغبون من غبن دينه)([7]) وعنه (ع) (إنّ المغبون مـن غبـن عُمَره، وإنّ المغبوط من أنفذ عمره في طاعة ربّه)([8]).

 

الخاسر المغبون ومنزلته:

ويزداد فرح المؤمن الفائز وحزن الفاسق والكافر الخاسر المغبون حينما يُعرض عليهما منزلاهما في الجنة والنار، ففي الرواية (في مجمع البيان روى عن النبي ص أنه قال: ما منكم من أحد إلا له منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فان مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله)([9]) فمن فقد منزله في الجنة يعاني ألمين، ألم العذاب في النار وألم الحسرة على منزله في الجنة وهو ينظر إليه.

وقد أشارت سورة التغابن إلى هذين الفريقين بعد وصف يوم القيامة بأنّه يوم التغابن، قال تعالى: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التغابن/9-10).

وقد تقدّم في تعريف الغبن أنّه البخس بضرب مـن الإخفـاء، والخفـاء هنـا هو ظهور الجزاء يومئذٍ للجميع بشكل لم يتوقعوه ولم يتصوروه قال تعالى بالنسبة للفريق الأول: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة/17) وقال تعالى في الفريق الثاني: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (الزمر/47) فهناك تبدو لهم الأمور مختلفة تماماً عن مقاييسهم في الدنيا (وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُـم مِّـنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُـمْ سِخْرِيّـاً أَمْ زَاغَـتْ

عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (ص/ 62-64).

 

من أشكال الغبن:

هذا الشكل من الغبن واضح، لكن شكلاً آخراً منه يحتاج إلى التفات وتأمّل، وهو أنّ نفس المؤمنين يشعرون بالغبن أيضاً لأنّهم سيكتشفون بعد ارتفاع حجاب الغفلة عن بصائرهم أنّهم فوّتوا على أنفسهم فرصاً عظيمة للطاعة ولو استثمروها لحصلوا على درجة أعلى ومقاماً أرفع وقرب متزايد من رضوان الله تعالى وأوليائه العظام، روي عن أمير المؤمنين (ع) قوله: (من أغبن ممّن باع الله سبحانه بغيره)([10]) وغير الله تعالى مطلق يشمل ما يرجوه عامة المؤمنين من نعيم الجنّة كالحور العين ولحم الطير وفواكه ممّا يشتهون.

وأشار السيد الشهيد الصدر الثاني + إلى هذا في إحدى رسائله إليّ قال فيها: (وأمّا الندم فهو للمؤمن لا للكافر، إن الكافر سوف يلهو بآلامه المبرحة في النار وأما المؤمن فسيعض على شفته ندماً من أنـّه قضـى حياتـه الدنيـا (وهـي بيـت الطاعة) يطفّر كالقبّرة ولم ينل إلاّ هذا المقدار من الثواب.

إنّ ما ناله مهما كان ضخماً وعظيماً فإنّه مثل قشّة تجاه الدنيا وما فيهــا أزاء مـــا يرى من مقامات الأولياء وهذه المقامات تعرض عليه قليلاً ليعرف المؤمن ما فوّته على نفسه، ثمّ تختفي لقلّة تحمله في النظر إليها)([11]).

ومثاله التاجر الذي يملك مالاً كثيراً ونفوذاً واسعاً وفرصاً جيدة للاستثمار ولا يوجد أيّ عائق في طريقه لكنّه يضع أمواله في أمور بسيطة لا تناسب المأمول فإنّه يشعر بالخسارة والغبن، فرأس مال الإنسان في هذه الدنيا عمره أيّاماً وليالي بل ساعات ودقائق لأنّها كلها يمكن أن تستثمر بطاعة ترفع درجته يوم القيامة بدل قضائها في أحاديث فارغة أو لهواً أو فضول أو أي عمل غير مثمر، ففي بعض الروايات أنّ ساعات عمر الإنسان تُعرض عليه على نحو صناديق بأشكال ثلاثة، ساعة الطاعة وساعة المعصية وساعة الفراغ فساعة الطاعة يفرح بها وساعة المعصية يتعذّب بها وساعة الفراغ يندم عليها، في الحديث عن النبي (ص) قال: (ما من ساعة تمرُّ بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حَسِر عليها يوم القيامة)([12]).

 

تجارة مربحة:

إنّ كل ثانية من حياة الإنسان يمكن أن يحولّها إلى طاعة عظيمـة كمـا لــو شغلهـا بتسبيحة ليغـرس الله تعالـى لـه بكـل تسبيحـة عشرة أشجار فـي الجنـة وفـي روايـة

أخرى شجرة، ففي أمالي الصدوق بسنده عن الصادق (ع) عن آبائه (ع) قال: (قال رسول الله (ص): (من قال سبحان الله غرس الله له بها شجره في الجنة و من قال الحمد لله غرس الله له بها شجره في الجنة و من قال لا اله الا الله غرس الله له بها شجره في الجنة و من قال الله اكبر غرس الله له بها شجره في الجنة فقال رجل من قريش([13]) يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير قال نعم و لكن إياكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها و ذلك إن الله عز وجل يقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (محمد/33))([14]).

إنّ هذه الطاعة التي قد لا تستغرق أكثر من ثانية واحدة من وقت الإنسان قد يكون لها دور خطير عندما تتساوى حسنات الإنسان وسيئاته فيحتاج إلى حسنة واحدة لترجيح كفّة الحسنات، فيتحسّر على ثوان يتمنى لو كان استثمرها في تسبيحة من عمره الكثير الذي أضاعه من دون فائدة.

 

الغبن فيما يخلّفه المؤمن بعد موته:

وينبغي الالتفات إلى حالة أخرى من الغبن يشعر بها حتى من استثمر عمره في الطاعة لكنّه لم يستفد من العمر الإضافي الذي يُعطى له لاكتساب المزيد من الحسنات، وهو الذي أشير إليه في الحديث الشريف (إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث: علم يُنتفع به، صدقة جارية، ولد صالح يدعو له)([15]) فيستطيع الإنسان بفضل الله تبارك وتعالى أن يستمر في اكتساب الحسنات حتى بعد وفاته بـأن يصبح من أهل العلم الذين يخلّفون أثراً نافعـاً أو يؤسـس مشروعـاً مبـاركاً يكـون صدقة جارية كمسجد أو شقق سكنية للفقـراء أو طلبـة العلـم أو مدرسـة دينيـة أو مركزاً صحيّاً أو يجري شبكة ماء.

والمصدر الثالث هو الولد الصالح بأن يتزوج امرأة صالحة ويتعب نفسه في تربية أولاده ليكونوا صالحين ثمّ يؤسس كلّ منهم أسرة صالحة وهكذا يتكاثرون وفق متوالية هندسية على مرِّ الأجيال أي أنّ الاثنين يصبحون أربعة والأربعة ستة عشر بل أكثر بفضل الله تبارك وتعالى، وإذا به بعد أجيال يكون من ذريته الآلاف من الصالحين وتستمر حسناته بالزيادة، فاغتنموا هذه الفرص بفضل الله تعالى ولطفه.

 

([1] ) من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من مصلي ديوان الزهراء (دام ظله) في حي الجامعة في النجف الأشرف يوم 29/رمضان/1434 الموافق 7/8/2013.

([2] ) المفردات للراغب، مادة (غبن).

([3] ) غرر الحكم/ 1352.

([4] ) غرر الحكم/ 2010.

([5] ) غرر الحكم/ 9164.

([6] ) بحار الأنوار: 77/215.

([7] ) ميزان الحكمة: 6/357.

([8] ) غرر الحكم/ 3502.

([9] ) تفسير نور الثقلين: ج3/532.

([10] ) غرر الحكم/ 8083.

([11] ) قناديل العارفين: ص87.

([12] ) كنز العمّال: 1819.

([13] ) لا يخفى على الفطِنْ من هو بقرينة الآية التي استشهد بها النبي (2) في ذيل الرواية.

([14] ) بحار الأنوار: 93/  168 ح3.

([15] ) شرح أصول الكافي، ج6، ص137.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى