القرآن و المجتمع المؤمن

في رحاب سورة القدر(1)

 

 

محتوى السّورة

محتوى السّورة كما هو واضح من اسمها بيان نزول القرآن الكريم في ليلة القدر، وبيان أهمية هذه الليلة وبركاتها.

وحول مكان نزولها في مكّة أو المدينة، المشهور بين المفسّرين أنّها مكيّة، واحتمل بعضهم أنّها مدنية، لما روي أنّ النبيّ (ص) رأى في منامه “بني اُمية” يتسلقون منبره، فصعب ذلك على النّبي وآلمه، فنزلت سورة القدر تسلّيه (لذلك قيل إن ألف شهر في السّورة هي مدّة حكم بني اُمية).

 

ونعلم أنّ منبر النّبي اُقيم في مسجد المدينة لا في مكّة(2).

لكن المشهور – كما قلنا – أنّها مكيّة، وقد تكون الرّواية من قبيل التطبيق لا سبباً للنزول.

 

فضيلة السّورة:

ويكفي في فضيلة السّورة تلاوتها ما روي عن النّبي (ص) قال: “من قرأها اُعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر”(3).

وعن الإمام محمّد بن علي الباقر (ع) قال: “من قرأ إنّا أنزلناه بجهر كان كشاهر سيفه في سبيل اللّه، ومن قرأها سرّاً كان كالمتشحط بدمه في سبيل اللّه” (4).

وواضح إنّ كل هذه الفضائل في التلاوة لا تعود على من يقرأها دون أن يدرك حقيقتها، بل إنّها نصيب من يقرأها ويفهمها ويعمل بها… من يقدر القرآن حقّ قدره ويطبق آياته في حياته.

 

الآيات (1-5)

﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر * تَنَزَّلُ الْمَلَـئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْر * سَلـْمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجرِ﴾

 

التّفسير:

ليلة القدر ليلة نزول القرآن:

يستفاد من آيات الذكر الحكيم أنّ القرآن نزل في شهر رمضان: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ (5)، وظاهر الآية يدل على أن كل القرآن نزل في هذا الشهر.

 

والآية الاُولى من سورة القدر تقول:

﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾.

 

اسم القرآن لم يذكر صريحاً في هذه الآية، ولكن الضمير في “أنزلناه” يعود إلى القرآن قطعاً.

والإبهام الظاهري في ذكر اسم القرآن إنّما هو لبيان عظمته وأهميته.

عبارة ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ فيها إشارة اُخرى إلى عظمة هذا الكتاب السماوي.

فقد نسب اللّه نزوله إليه، وبصيغة المتكلم مع الغير أيضاً، وهي صيغة لها مفهوم جمعي وتدل على العظمة.

 

نزول القرآن في ليلة “القدر” وهي الليلة التي يقدر فيها مصير البشر وتعين بها مقدراتهم، دليل آخر على الأهمية المصيرية لهذا الكتاب السماوي.

 

لو جمعنا بين هذه الآية وآية سورة البقرة لاستنتجنا أنّ “ليلة القدر” هي إحدى ليالي شهر رمضان، ولكنّها أية ليلة؟ القرآن لا يبيّن لنا ذلك، ولكن الرّوايات تتناول هذا الموضوع بإسهاب.

 

وسنتناولها في نهاية تفسير هذه السّورة إن شاء اللّه.

وهنا يطرح سؤال له طابع تاريخي وله ارتباط بما رافق أحداث حياة النّبي (ص) من نزول القرآن.

من المؤكّد أنّ القرآن الكريم نزل تدريجياً خلال (23) عاماً.

فكيف نوفق بين هذا النزول التدريجي وما جاء في الآيات السابقة بشأن نزول القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر؟

 

الجواب على هذا السؤال كما ذكره المحققون يتلخص في أنّ للقرآن نزولين:

النزول الدفعي، وهو نزول القرآن بأجمعه على قلب النّبي (ص) أو على البيت المعمور، أو من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.

والنزول التدريجي، وهو ما تمّ خلال (23) سنة من عصر النبوّة (ذكرنا شرح ذلك في تفسير الآية 3 من سورة الدخان).

وقال بعضهم إن ابتداء نزول القرآن كان في ليلة القدر لا كلّه، ولكن هذا خلاف ظاهر الآية التي تقول: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾.

ويذكر أنّ تعبير الآيات عن نزول القرآن يكون مرّة بكلمة “إنزال” ومرّة اُخرى بكلمة “تنزيل”.

ويستفاد من كتب اللغة أن التنزيل للنزول التدريجي، والإنزال له مفهوم واسع يشمل النزول الدفعي أيضاً(6).

وهذا التفاوت في التعبير القرآني قد يكون إشارة إلى النزولين المذكورين.

في الآيتين التاليتين يبيّن اللّه تعالى عظمة ليلة القدر ويقول سبحانه:

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾. ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾.

والتعبير هذا يوضح أنّ عظمة ليلة القدر كبيرة إلى درجة خفيت على رسول اللّه (ص) أيضاً قبل نزول هذه الآيات، مع ما له من علم واسع.

 

و﴿أَلْفِ شَهْرٍ﴾ تعني أكثر من ثمانين عاماً، حقّاً ما أعظم هذه الليلة التي تساوي قيمتها عُمُراً طويلاً مباركاً.

 

وجاء في بعض التفاسير أنّ النّبي (ص) ذكر رجلاً من بني اسرائيل لبس السلاح في سبيل اللّه ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك فأنزل اللّه ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل اللّه ألف شهر(7).

 

وروي أنّ أربعة أشخاص من بني اسرائيل عبدوا اللّه تعالى ثمانين سنة من دون ذنب، فتمنى الصحابة ذلك التوفيق لهم، فنزلت الآية المذكورة.

 

وهل العدد (ألف) في الآية للعدّ أو التكثير؟:، قيل إنّه للتكثير، وقيمة ليلة القدر خير من آلاف الأشهر أيضاً، ولكن الرّوايات أعلاه تبيّن أنّ العدد المذكور للعدّ، والعدد عادة للعد إلاّ إذا توفرت قرينة واضحة تصرفه إلى التكثير.

 

ولمزيد من وصف هذه الليلة تقول الآية التالية: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾.

 

و”تنزل” فعل مضارع يدل على الإستمرار (والأصل تتنزل) ممّا يدل على أنّ ليلة القدر لم تكن خاصّة بزمن النّبي الاكرم (ص)، وبنزول القرآن، بل هي ليلة تتكرر في كل عام باستمرار.

 

وما المقصود بـ “الروح”؟ قيل: إنّه جبرائيل الأمين، ويسمّى أيضاً الروح الأمين.

 

وقيل: إنّ الروح بمعنى الوحي بقرينة قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾(8).

 

وللروح تفسير آخر يبدو أنّه أقرب، هو أنّ الروح مخلوق عظيم يفوق الملائكة.

 

وروي أنّ الإمام الصادق (ع) سئل عن الروح وهل هو جبرائيل، قال: “جبرائيل من الملائكة، والروح أعظم من الملائكة، أليس أنّ اللّه عزّوجلّ يقول: تنزل الملائكة والروح”؟ (9)

 

فالإثنان متفاوتان بقرينة المقابلة.

 

وذكرت تفاسير اُخرى للروح هنا نعرض عنها لإفتقادها الدليل. ﴿مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾ أي لكل تقدير وتعيين للمصائر، ولكل خير وبركة.

فالهدف من نزول الملائكة في هذه الليلة إذن هو لهذه الاُمور.

 

أو بمعنى بكل خير وتقدير، فالملائكة تنزل في ليلة القدر ومعها كل هذه الاُمور (10).

وقيل: المقصود أنّ الملائكة تنزل بأمر اللّه، لكن المعنى الأوّل أنسب.

عبارة “ربّهم” تركز على معنى الربوبية وتدبير العالم، وتتناسب مع عمل الملائكة في تلك الليلة حيث تنزل لتدبير الاُمور وتقديرها، وبذلك يكون عملها جزء من ربوبية الخالق.

 

بإيجاز الآية الكريمة تقول: الملائكة والروح تتنزل في هذه الليلة بأمر ربّهم لتقدير كلّ أمر من الاُمور. ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ والآية الأخيرة هذه تصف الليلة بأنّها مفعمة بالخير والسلامة والرحمة حتى الصباح. القرآن نزل فيها، وعبادتها تعادل عبادة ألف شهر، وفيها تنزل الخيرات والبركات، وبها يحظى العباد برحمة خاصّة، كما إنّ الملائكة والروح تتنزل فيها… فهي إذن ليلة مفعمة بالسلامة من بدايتها حتى مطلع فجرها.

 

والرّوايات تذكر أنّ الشيطان يكبل بالسلاسل هذه الليلة فهي ليلة سالمة مقرونة بالسلامة.

 

وإطلاق كلمة “سلام” على هذه الليلة بمعنى “سلامة” (بدلاً من سالمة) هو نوع من التأكيد كأن نقول فلان عدل، للتأكيد على أنّه عادل.

 

وقيل: إنّ إطلاق كلمة (سلام) على تلك الليلة يعني أنّ الملائكة تسلّم باستمرار على بعضها أو على المؤمنين، أو أنّها تأتي إلى النّبي (ص) وخليفته المعصوم، تسلّم عليه.

 

ومن الممكن أيضاً الجمع بين هذه التفاسير.

إنّها على أي حال ليلة ملؤها النور والرحمة والخير والبركة والسلامة والسعادة من كلّ الجهات.

 

وسئل الإمام محمّد بن علي الباقر (ع) عمّا إذا كان يعرف ليلة القدر، قال: “كيف لا نعرف والملائكة تطوف بنا فيها”.

 

وجاء في قصّة إبراهيم (ع) أنّ عدداً من الملائكة جاءت إليه وبشرته بالولد وسلمت عليه (هود – 69) وفي الرّواية أنّ إبراهيم أحسّ بلذة من سلام الملائكة لا تعدلها لذّة، إذن، فأية لذّة وبركة ولطف في سلام الملائكة على المؤمنين وهي تتنزل في ليلة القدر!!

 

وحين اُلقي إبراهيم (ع) في نار نمرود، جاءت إليه الملائكة وسلمت عليه فتحولت النّار إلى جنينة.

ألا تتحول نار جهنم ببركة سلام الملائكة على المؤمنين في ليلة القدر إلى برد وسلام.

نعم هذه كرامة لاُمّة محمّد وتعظيم لها حيث تنزل الملائكة هناك على الخليل (ع) وتنزل هنا على اُمّة الإسلام (11)

 

بحوث:

أولاً: ما هي الاُمور التي تُقدّر في ليلة القدر؟

 

في سبب تسمية هذه الليلة بليلة القدر قيل الكثير من ذلك:

 

1-لأنّها الليلة التي تعيّن فيها مقدرات العباد لسنة كاملة، يشهد على ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ {الدخان/3} فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾(12).

هذه الآية الكريمة تنسجم مع ما جاء من الرّوايات تقول: في هذه الليلة تعيّن مقدرات النّاس لسنة كاملة، وهكذا أرزاقهم، ونهاية أعمارهم، وأُمور اُخرى تفرق وتبيّن في تلك الليلة المباركة.

 

هذه المسألة طبعاً لا تتنافى مع حرية إرادة الإنسان ومسألة الإختيار، لأنّ التقدير الإلهي عن طريق الملائكة إنّما يتمّ حسب لياقة الأفراد وميزان إيمانهم وتقواهم وطهر نيّتهم وأعمالهم.

أي يقدر كلّ فرد ما يليق له; وبعبارة اُخرى، أرضية التقدير يوفرها الإنسان نفسه، وهذا لا يتنافى مع الإختيار بل يؤكّده.

 

2-وقال بعض إنّها سمّيت بالقدر لما لها من قدر عظيم وشرف كبير في القرآن جاء قوله سبحانه: ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ (13).

 

3-وقيل لأنّ القرآن بكل قدره ومنزلته نزل على رسول الأكرم (ص) بواسطة المَلك العظيم في هذه الليلة.

 

4-إنّها الليلة التي قُدّر فيها نزول القرآن.

 

5-إنّها الليلة التي من أحياها نال قدراً ومنزلة.

 

6-وقيل أيضاً لأنّها الليلة التي تنزل فيها الملائكة حتى تضيق بهم الأرض لكثرتهم.

 

لأنّ القدر جاء بمعنى الضيق أيضاً كقوله تعالى: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾(14).

 

كل هذه التفاسير يستوعبها المفهوم الواسع لليلة القدر مع أنّ التّفسير الأوّل أنسب وأشهر.

 

2-أية ليلة هي ليلة القدر؟

لا شك أنّ ليلة القدر من ليالي شهر رمضان، لأنّ الجمع بين آيات القرآن يقتضي ذلك.

 

فالقرآن نزل في شهر رمضان من جهة (البقرة – 185)، ومن جهة اُخرى تقول آيات السّورة التي نحن بصددها أنّه نزل في ليلة القدر.

ولكن، آية ليلة من شهر رمضان؟ قيل في ذلك كثير، وذكرت تفاسير عديدة من ذلك: أنّها أوّل ليلة من شهر رمضان المبارك، الليلة السابعة عشرة، الليلة التاسعة عشرة، الليلة الحادية والعشرون، الليلة الثّالثة والعشرون، الليلة السابعة والعشرون، والليلة التاسعة والعشرون.

والمشهور في الرّوايات أنّها في العشر الأخيرة من شهر رمضان، وفي الليلتين الحادية والعشرين أو الثّالثة والعشرين.

لذلك ورد في الرّوايات أنّ النبيّ (ص) كان يحيي كل الليالي العشر الأخيرة من الشهر المبارك بالعبادة.

وروي عن الإمام الصادق (ع) أنّها الليلة الحادية والعشرون أو الثّالثة والعشرون.

وعندما أصر عليه أحدهم في تعيين واحدة بين الليلتين لم يزد الإمام على أن يقول: “ما أيسر ليلتين فيما تطلب!!” (15).

 

ثمّة روايات متعددة عن أهل البيت (ع) تركز على الليلة الثّالثة والعشرين.

 

بينما روايات أهل السنة تركز على الليلة السابعة والعشرين.

وروي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) قال: “التقدير في ليلة القدر تسعة عشر، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين” (16).

ليلة القدر إذن محاطة بهالة من الإبهام سنذكر سببه فيما يلي.

 

ثالثاً: لماذا خفيت ليلة القدر؟

الإعتقاد السائد أنّ اختفاء ليلة القدر بين ليالي السنة، أو بين ليالي شهر رمضان المبارك يعود إلى توجيه النّاس إلى الإهتمام بجميع هذه الليالي; مثلما أخفى رضاه بين أنواع الطاعات كي يتجه النّاس إلى جميع الطاعات، وأخفى غضبه بين المعاصي، كي يتجنب العباد جميعها، وأخفى أحباءه بين النّاس كي يُحترم كلّ النّاس، وأخفى الإجابة بين الأدعية لتقرأ كل الأدعية، وأخفى الاسم الأعظم بين أسمائه كي تعظم كل أسمائه، وأخفى وقت الموت كي يكون النّاس دائماً على استعداد.

ويبدو أن هذا دليل مقبول:

 

رابعاً: هل كانت ليلة القدر معروفة بين الاُمم السابقة؟

من ظاهر آيات هذه السّورة نفهم أنّ ليلة القدر ليست خاصّة بزمان نزول القرآن وعصر الرّسول (ص)، بل تتكرر كلّ سنة حين يرث اللّه الأرض ومن عليها.

التعبير بالفعل المضارع “تنزل” الدال على الإستمرار، وهكذا التعبير بالجملة الإسمية ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ الدالة أيضاً على الدوام يؤيد ذلك.

مضافاً إلى ذلك الرّوايات التي ربّما بلغت حدّ التواتر في تأييد هذه المسألة.

ولكن هل كانت هذه الليلة في الاُمم السابقة؟

روايات متعددة تصرّح أنّ هذه الليلة من المواهب الإلهية على هذه الاُمّة، وعن النبيّ (ص) قال: “إنّ اللّه وهب لاُمّتي ليلة القدر لم يعطها من كان قبلهم”.

وفي تفسير الآيات التي نحن بصددها روايات تؤيد ذلك أيضاً.

 

خامساً: ليلة القدر خير من ألف شهر

لماذا كانت خيراً من ألف شهر… الظاهر لأهمية العبادة والإحياء فيها.

وما جاء من روايات بشأن فضيلة ليلة القدر وفضيلة العبادة فيها في كتب الشيعة وأهل السنة كثير، ويؤيد هذا المعنى.

أضف إلى ذلك، فإنّ نزول القرآن في هذه الليلة، ونزول البركات والرحمة الإلهية فيها يجعلها خيراً من ألف شهر.

 

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) قال: لعلي بن أبي حمزة الثمالي: “فاطلبها (أي ليلة القدر) في ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وصل في كل واحدة منهما مائة ركعة وأحيهما إن استطعت إلى النور، واغتسل فيهما”

قال: قلت: فإن لم أقدر على ذلك وأنا قائم؟

قال: فصلِّ وأنت جالس.

قال: قلت: فإن لم أستطع؟

قال: فعلى فراشك، لا عليك أن تكتحل أوّل الليل بشيء من النوم إنّ أبواب السماء تفتح في رمضان وتصفد (تقيّد) الشياطين، وتقبل أعمال المؤمنين… نعم الشهر رمضان!” (17).

 

سادساً: لماذا نزل القرآن في ليلة القدر؟

ليلة القدر – كما علمنا – ليلة تقدير مصائر البشر لسنة كاملة حسب ما يليق بكلّ فرد.

فينبغي أن يكون الإنسان فيها مستيقظاً وفي حالة تقرب إلى اللّه وتكامل على طريق بناء الشخصية الإسلامية ليرفع من مستوى لياقته لمزيد من رحمة اللّه.

نعم، في اللحظات التي يتقرر فيها مصيرنا ينبغي أن لا نكون غافلين، وإلاّ فسيواجهنا المصير المؤلم.

 

والقرآن… باعتباره الكتاب القادر على أن يرسم للبشرية مستقبلها ومصيرها ويهديها إلى طريق سعادتها وهدايتها، يجب أن ينزل في ليلة القدر… ليلة تعيين المصير… وما أجمل هذه العلاقة بين “القرآن” و”ليلة القدر”، وما أعمق معنى الإرتباط بين الإثنين!!

 

سابعاً: هل ليلة القدر واحدة في المعمورة؟

نعلم أن بدء الشهر القمري ليس واحداً في جميع البلدان. وقد يكون يومنا هذا أوّل الشهر في بلد ويكون الثّاني في بلد آخر.

من هنا لا يمكن أن تكون ليلة القدر ليلة معينة في السنة.

على سبيل المثال قد تكون ليلة الثّالث والعشرين في الحجاز هي ليلة الثّاني والعشرين في ايران والعراق.

وبهذا يكون لكل بلد ليلة قدر! وهل هذا ينسجم مع ما جاء في الرّوايات المؤكّدة على أنّ ليلة القدر ليلة معينة؟

الجواب يتّضح بالإلتفات إلى ما يلي:

الليل هو ظل نصف الكرة الأرضية على النصف الآخر من هذه الكرة، ونعلم أن هذا الظل يتحرك بتحرك الكرة الأرضية، ويدور دورة كاملة في أربع وعشرين ساعة من هنا يمكن أن تكون ليلة القدر دورة كاملة لليل حول الأرض، أي تكون هذه الليلة مدّة أربع وعشرين ساعة من دوران الظلام حول الكرة الأرضية بأجمعها، تبدأ من نقطة وتنتهي عند نقطة اُخرى.

 

(تأمل بدقّة).

اللّهم! مُنَّ علينا بيقظة ووعي كي نتزوّد من فضيلة ليلة القدر.

ربّنا! آمالنا منشدّة إلى لطفك وكرمك، فقدّر لنا وفق ما نأمله فيك.

يا ربّ العالمين! لا تجعلنا من محرومي هذا الشهر فما بعد هذا الحرمان حرمان.

آمين يا ربّ العالمين

 

1– الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل – الشيخ ناصر مكارم الشيرازي – ج ٢٠ – الصفحة ٣٤١.

2– روح المعاني: ج30، ص 188; والدر المنثور، ج6، ص 371.

3– مجمع البيان، ج 10، ص 516.

4– المصدر السابق.

5– البقرة، الآية 185.

6– مفردات الراغب، مادة نزل.

7– الدر المنثور، ج8، ص568.

8– الشورى، الآية 52.

9– تفسير البرهان، ج4، ص481.

10– حسب التّفسير الأوّل (من) هنا بمعنى لام التعليل أي لأجل كلّ أمر. وبناء على التّفسير الثّاني (من) تعني باء المصاحبة.

11– تفسير الفخر الرازي، ج32، ص36.

12– الدخان، الآية 3 – 4.

13– الحج، الآية 74.

14– الطلاق، الآية 7.

15– نور الثقلين، ج5، ص625، الحديث 58.

16– المصدر السابق، الحديث 626.

17– نور الثقلين، ج5، ص626، مقطع من الحديث 58.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى