مقامات قرآنية

إذا كان اللهُ ليس في مكانٍ فلماذا المعراج؟

 

المسألة:

يشكل علينا البعض بقولهم إنَّ الله تعالى لا يحدُّه مكانٌ كما أطبقت عليه أعلامُ الطائفة فكيف نفهمُ معراجَ الرسول الأعظم (ص) إلى السماء ومنها إلى سدرة المُنتهى ومنها إلى حُجُب النور ومناجاته لله تعالى؟

 

الجواب:

المعراجُ كان إلى السماوات العُلى وإلى سدرة المُنتهى وإلى جنَّة المأوى ولم يكنْ المعراجُ إلى اللهِ تعالى حتَّى يتوهَّمَ مُتوهِّمٌ أنَّ الله تعالى في مكانٍ، ولهذا أفادت الآياتُ من سورةِ الإسراء وسورةِ النجم أنَّ الغايةَ من الإسراءِ والمعراجِ هي اراءةُ النبيِّ(ص) آياتِ اللهِ الكبرى، قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾(1) فالغايةُ بحسب الآيةِ من الإسراءِ هي إراءةُ النبيِّ (ص) آياتٍ لله تعالى لم يكن ليراها عيانًا لولا الإسراء، وقال تعالى: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾(2) فالغايةُ من العروج به حيثُ سدرة المنتهى قد تحقَّقت وذلك لأنَّه (ص) قد شاهد عندها من آياتِ ربِّه الكبرى، فهو قد شاهدَ هناك كُبريات الآياتِ ولم يكنْ يسعُه ذلك لولا العروجُ به إلى هناك.

 

وأما مناجاةُ الله تعالى له (ص) في ليلةِ المعراج فهو لا يعني أنَّ الله تعالى كان هناك، فقد ناجى اللهُ تعالى موسى (ع) وكان على الأرض عند جبل الطور، فاللهُ جلَّ وعلا قد يختار لأنبيائِه مواضعَ لمناجاتِه، فاختار لموسى الطور وخاطبَه هناك، فقال له: ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾(3) ولمَّا أراد أن يُنزِّل عليه التوارة أمرَه بالهجرة إلى وادي الطور ليتلقَّى التوراة هناك قال تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾(4) إلى أنْ قال: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾(5) إلى أنْ قال: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾(6) فهو تعالى اختار لنبيِّه موسى وادي الطور لمناجاتِه، واختار لنبيِّه محمَّدٍ (ص) سدرةَ المنتهى، فليس معنى اختيارِه تعالى لموضعِ المناجاة أنَّه حينها متحيِّز بذلك المكان، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

 

وكذلك فإنَّ الله تعالى يختارُ مواضع لعبادتِه فينسبُها إلى نفسه فيُسمِّي الكعبة مثلًا بيتَ اللهِ وحرَمَه، ويُسمِّي البيتَ المعمور في السماء بيتَ اللهِ وحرَمَه، ويُسمِّي المسير إلى مثل هذه البيوت هجرةً إلى اللهِ ومسيرًا إليه تعالى كما قال موسى حين تعجَّل المسيرَ إلى طور سيناء: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾(7) وقال تعالى على لسان لوط: ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾(8) وقال على لسان إبراهيم: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾(9) رغم أنَّ هجرة كلٍّ منهما كانت إلى بلدٍ أُخرى غير البلد التي كانا فيها.

 

وقد تصدَّى أهلُ البيت (ع) لنفي ما قد يتوهَّمُه الواهمون من أنَّ العروجَ بالنبيِّ (ص) إلى السماء يتنافى مع ما عليه عقيدة التوحيد من أنَّ اللهَ تعالى ليس في مكان، فمن ذلك ما ورد في معتبرة عن يونس بن عبد الرحمن قال: قلتُ لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): لأيِّ علة عرَجَ اللهُ بنبيِّه إلى السماء ومنها إلى سدرة المُنتهى، ومنها إلى حُجُبِ النور وخاطبَه وناجاه هناك والله لا يُوصفُ بمكان؟ فقال (عليه السلام): إنَّ الله لا يُوصفُ بمكانٍ، ولا يَجري عليه زمان، ولكنَّه عزَّ وجلَّ أراد أنْ يُشرِّفَ به ملائكتَه وسكَّانَ سماواتِه، ويُكرمُهم بمشاهدتِه. ويُريه من عجائب عظمتِه ما يُخبرُ به بعد هبوطِه، وليس ذلك على ما يقولُه المشبِّهون، سبحانَ الله وتعالى عمَّا يصفون”(10).

 

ومنه: ما رواه الشيخُ الصدوقُ بسنده عن أبي حمزة الثمالي ثابتِ بنِ دينار قال: سألتُ زينَ العابدين عليِّ بن الحسين (عليه السلام) عن اللهِ جلَّ جلالُه هل يُوصفُ بمكان؟ فقال: تعالى اللهُ عن ذلك، قلتُ: فلِمَ أُسرى بنبيِّه محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله) إلى السماء؟ قال: ليُريه ملكوتَ السماوات وما فيها من عجائب صُنعه وبدائعِ خلقِه..” (11) فالغايةُ من الإسراء به إلى السماء هي إراءتُه لملكوتِ السماوات وما فيها من عجائبِ صُنعِ الله تعالى وبدائعِ خلقِه.

 

ومن ذلك ما رواه الشيخُ الصدوق في التوحيد بسنده عن عمرو بن خالد، عن زيد بن عليٍّ (عليه السلام) قال: سألتُ أبي سيِّدَ العابدين (عليه السلام) فقلتُ له: يا أبَه أخبرني عن جدِّنا رسولِ الله لمَّا عُرج به إلى السماء وأمَره ربُّه عزَّ وجلَّ بخمسين صلاة كيف لم يسأله التخفيف عن أُمَّتِه حتَّى قال له موسى بنُ عمران (عليه السلام): ارجع إلى ربِّك فاسألْه التخفيفَ فإنَّ أُمَّتك لا تُطيق ذلك؟…. فقلتُ: فما معنى قولِ موسى (عليه السلام) لرسولِ الله (صلَّى الله عليه وآله) ارجعْ إلى ربِّك، فقال: معناهُ معنى قولِ إبراهيم: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ ومعنى قولِ موسى (عليه السلام): ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾” ومعنى قولِه عزَّ وجلَّ: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ﴾(12) يعني حجُّوا إلى بيتِ الله، يا بُني إنَّ الكعبة بيتُ الله، فمَن حجَّ بيتَ الله فقد قصدَ إلى الله، والمساجدُ بيوتُ الله، فمَن سعى إليها فقد سعى إلى الله وقصدَ إليه، والمصلِّي ما دام في صلاتِه فهو واقفٌ بين يدي الله جلَّ جلالُه، وأهلُ موقف عرفات هم وقوفٌ بين يدي الله عزَّ وجل، وإنَّ للهِ تبارك وتعالى بقاعًا في سماواتِه فمَن عُرِجَ به إلى بقعةٍ منها فقد عُرِجَ به إليه، ألا تسمعُ اللهَ عزَّ وجلَّ يقول: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾(13) ويقول عز وجل في قصَّةِ عيسى: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾(14) ويقولُ عزَّ وجلَّ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾(15)(16).

 

وأما ما ورد من أنَّ النبيَّ (ص) قد بلغ حُجُب النور فالمراد من ذلك هي حجب المعرفة لله تعالى، فإنَّ المعرفة لله تعالى ذاتُ مراتب لا تُحصى، وكلُّ مرتبةٍ من تلك المراتب حجابٌ دون معرفة كُنهِ الله جلَّ وعلا، وكلَّما تخطَّى العبدُ مرتبةً من تلك المراتب زال عن قلبِه حجابٌ من حجُب المعرفة فصار أكثرَ قُربًا من معرفةِ الله جلَّ وعلا، فمعنى أنَّ النبيَّ (ص) بلغ إلى حُجُب النور هو أنَّه تخطَّى أكثر المراحل والمراتب التي تحولُ دون المعرفة التامَّة لله تعالى لكنَّه لم يصل إلى تمام المعرفة بل ظلَّت حُجُبٌ من نور المعرفة بالله لم يتهيأ لرسول الله (ص) التخطِّي لها ولعلَّ ممَّا يؤيد ذلك ما رُوي عنه (ص) قوله: “سُبحانَكَ ما عَرَفناكَ حَقَّ مَعرِفَتِكَ”(17)، وكذلك ما ورد في الدعاء المأثور عن زين العابدين: “يَا مَنْ لا يَعْلَمُ مَا هُوَ إِلا هُوَ”.

 

فرغم أنَّ الحجب التي تخطَّاها النبيُّ (ص) تفوقُ المراتب التي تخطَّتها ملائكةُ الله جلَّ وعلا بل وتفوقُ المراتبَ التي تخطَّاها جبرئيلُ (ع) لكنَّ حجبًا من نور عظمة الله ظلَّت تحولُ دون معرفة الرسول التامَّة لله جلَّ وعلا، وهذا هو معنى ما ورد من أنَّ جبرئيل حين بلغ موضعًا قال للنبيِّ (ص) تقدَّم وتخلَّف هو وقال لو تقدَّمتُ لاحترقتُ، ذلك لأنه بلغ أقصى ما أُتيح له من المعرفة ولكنَّ النبيَّ الأعظم (ص) قد أُتيح له من القدرة المعرفيَّة ما أهَّلته لتخطِّي حُجُبٍ معرفيَّة أكثر وأوسع.

 

ويُؤيد ذلك ما ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنَّه قال في الآية: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾(18): “انقطعت الكيفيَّة عن الدنوِّ: ألا ترى كيف حُجب جبرائيل عن دنوِّه، ودنا محمَّدٌ إلى ما أُودع قلبُه من المعرفة والإيمان، فتدلَّى بسكونِ قلبِه إلى ما أدناه، وزال عن قلبِه الشكُّ والارتياب”(19).

 

وكذلك ما ورد في معتبرة ابْنِ أَبِي نَصْرٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (ع) قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (ص): لَمَّا أُسْرِيَ بِي إِلَى السَّمَاءِ بَلَغَ بِي جَبْرَئِيلُ مَكَانًا لَمْ يَطَأْه قَطُّ جَبْرَئِيلُ فَكَشَفَ لَه فَأَرَاه الله مِنْ نُورِ عَظَمَتِه مَا أَحَبَّ”(20).

 

وما ورد عن أبي محمد العسكري (ع) أنَّه قال: “إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى أَرَى رَسُولَه بِقَلْبِه مِنْ نُورِ عَظَمَتِه مَا أَحَبَّ”(21).

 

فالذي كُشف للنبيِّ (ص) ليلة المعراج فرآه بقلبه هو بعضٌ من نور عظمة الله بالمقدار الذي أحبَّ الله وشاء له أنْ يراه بقلبِه، والمراد من النور ليس هو الضوء المادِّي بل هو نورُ المعرفةِ والعلم.

 

ويؤيِّدُ ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين (ع) في كتاب الاحتجاج قوله: “فدنا بالعلم فتدلَّى… وغشى النورُ بصره فرأى عظمةَ ربِّه عزَّ وجلَّ بفؤاده، ولم يرها بعينِه، فكان كقابِ قوسين بينَه وبينَها أو أدنى”(22).

 

وأما ما قد يُقال بأنَّ المعرفة القلبيَّة بعظمة الله تعالى يمكنُ الوصولُ إليها على الأرض فلماذا المعراج؟ فإنَّه يُقال إنَّ المشاهدة العينيَّة والوجدانيَّة للمزيد من آياتِ الله تعالى وملكوتِ سماواته يُسهمُ في التوسيع من أفقِ المعرفة بجلالِ الله وعظمتِه، فالمعرفةُ التي يُمكن تحصيلُها عند مشاهدة أُفقٍ أضيق من آياتِ الله ليست هي ذاتها المعرفة -من حيث المرتبة- التي يحظى بها من شاهد أُفقًا أرحب من آياتِ الله جلَّ وعلا، ولذلك أكَّدت الآياتُ من سورة الإسراء وسورة النجم على أنَّ الغاية من المعراج هي إراءةُ النبيِّ (ص) من آياتِ الله الكبرى.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

1– الإسراء/1.

2– النجم/17-18.

3– طه/12-13.

4– الأعراف/142.

5– الأعراف/143.

6– الأعراف/144-145.

7– طه/84.

8– العنكبوت/26.

9– الصافات/99.

10– علل الشّرائع – الشّيخ الصدوق: ج1 / ص132.

11– الأمالي – الشّيخ الصّدوق: 213-214.

12– الذاريات/5.

13– المعارج/4.

14– النساء/158.

15– فاطر/10.

16– التّوحيد – الشّيخ الصّدوق: ص177.

17– الفوائد الطّوسيّة – الحرّ العاملي: ص308.

18– النجم/8-9.

19– تفسير السّلمي – السلمي: ج2 / ص284، سبل الهدى والرّشاد – الصالحي الشامي: ج3 / ص157.

20– الكافي – الشّيخ الكليني: ج1 / ص98.

21– الكافي – الشّيخ الكليني: ج1 / ص95.

22– الاحتجاج – الشيخ الطّبرسي: ج1 / ص327.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى