آية وتفسير

(قبس 43 ) وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)([1])

[طه : 124]

عميت عين لا يراك:

من دعاء الإمام الحسين (ع) يوم عرفة وهو يناجي ربه بكل تذلّل وخضوع (عميت([2]) عينٌ لا تراك عليها رقيباً وخسرت([3]) صفقة عبد لم تجعل له من حبّّك نصيبا) وهاتان الفقرتان فضلاً عن بقية فقرات الدعاء تزوّدنا بقواعد في السلوك المعنوي إلى الله تبارك وتعالى، وتدلّنا على الجناحين اللذين نطير بهما في سماء الكمال ومعرفة الله تعالى وبلوغ رضوانه وهما المراقبة والحب، مراقبة الله تعالى في كل الأفعال والأقوال والمواقف، واحتواء القلب على محبة الله تعالى حتى يكون هذا الحب هو البوصلة الموجّهة لكل الحركات والسكنات، وبالحب والمراقبة تتحقق التقوى التي هي خير الزاد ليوم المعاد (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) (البقرة/197).

فالشخص الذي يفعل ما يحلو له من دون إحساس وجداني بـأن الله تعـالى

مطّلع عليه وأنه بمحضر رب العزة والجلال دائماً (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر/19) (إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء) (آل عمران/5) (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (إبراهيم/38) مثل هذا الشخص لا يبصر الحقيقة وهو أعمى البصيرة وإن كانت له عينان تبصران: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف/179) (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً) (الإسراء/97).

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً *  قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) (طه/124-126).

 

عقوبة الإعراض عن ذكر الله تعالى:

فمن يعرض عن ذكر الله تعالى ويهمل وظائف العبودية لربه تحصل له عقوبتان:

        الأولى: المعيشة الضيقة النكدة المليئة بالقلق والخوف وعذاب الضمير ويزداد هذا الضيق قسوة عليه عند الموت وما بعده في القبر والبرزخ.

        الثانية: يُحشر يوم القيامة أعمى لا يرى طريق السعادة والنجاة ورضوان الله تعالى وإن كان يرى العذاب والألم والأهوال أي أنّ عماهُ ليس مطلقاً وإنّما عن خصوص ما ينجيه ويوصله إلى السعادة والفلاح أمّا العذاب والألم والمصير المشؤوم فإنّه يراه (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق/22) (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ) (الفرقان/22) (وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ) (يونس/54) (سبأ/33) (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ) (الشورى/44) (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ) (البقرة/166) لأنه كان هكذا في دار الدنيا، كان معرضاً عن الهداية والرشد ولا يرى طريق السعادة لكنّه كان يبصر الشهوات والهوى والدنيا فتجلّت حقيقته في الآخرة كما اختار هو في الدنيا (وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (الإسراء/72) وبهذا نردّ على إشكال بعض متحذلقة الكلام بوجود تناقض في القرآن الكريم بين آيات الإبصار والرؤية وآيات العمى.

ولأنّ هذا الشخص نسي ذكر ربه وأعرض عن آياته وأهملها فكان جزاؤه يوم القيامة أن يُنسى بمعنى يهمل ولا يلتفت إلى استغاثته وندائه واستصراخه كما يقول أحدنا لمن أهمله ولم يلتفت إليه إنك نسيتني، فقد جوزي إذن بنفس فعله (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) (الشورى/40) روي عن رسول الله (ص) قوله (ليس الأعمى من يعمى بصره، إنما الأعمى من تعمى بصيرته)([4]) والثاني أشد من الأول روي عن أمير المؤمنين (ع) قوله (فقد البصر أهون من فقدان البصيرة)([5]).

 

هل أنت من أهل البصيرة؟

وتدلّنا الروايات على بعـض علامـات أهـل البصيـرة، كالمـروي عـن أميـر المؤمنين (ع) (أبصر الناس من أبصر عيوبه وأقلع عن ذنوبه)([6]) وعنه (ع) (ألا إن أبصر الأبصار ما نفذ في الخير طرفُه)([7]).

ومن موجبات النور في الدنيا والآخرة بحسب ما أفادت الروايات الشريفة:

  • 1- تقوى الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الحديد/28).
  • 2- الصلاة، عن رسول الله (ص) قال (الصلاة نور)([8]).
  • 3- تلاوة القرآن، عنه (ص) (عليك بتلاوة القرآن، فإنه نور لك في الأرض، وذخرٌ لك في السماء) وعن الإمام الحسن (ع) (إن هذا القرآن فيه مصابيح النور).
  • 4- صلاة الليل، عن أمير المؤمنين (ع) قال: (ما تركتُ صلاة الليل منذ سمعت قول النبي (ص): صلاة الليل نور).
  • 5- ترك فضول الكلام وهو مادة أكثر أحاديثناس في مجالسهم، عن أمير المؤمنين (ع) قال: (أكثر صمتك يتوفر فكرك، ويستنر قلبك ويسلـم من يديك).
  • 6- تجنب ظلـم الآخريـن، والآخــرون المقصــودون بالظلــم يمكــــن أن

يكونـوا الوالدين أو الزوجة أو الأولاد أو الجيـران لتضييـع حقوقهــم أو عمـوم النـاس عند عدم مراعاة الحق والعدل والإنصاف معهم، روي أن رجلاً قال لرسول الله (ص): أحبُّ أن أحشرَ يوم القيامة في النور، قال رسول الله (ص): (لا تظلم أحداً تُحشر يوم القيامة في النور).

  • 7- أن تشهد بالحق للآخرين وتنصفهم، على أي مستوى من المستويات كما لو أريد منك الشهادة لأحد بالصلاح وحسن السيرة لتزويجه أو بحق مالي له أو أي حق اعتباري آخر عن النبي (ص) قال (من شهد شهادة حق ليحيي بها حق امرئٍ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نورٌ مدَّ البصر يعرفه الخلائق باسمه ونسبه).
  • 8- الدعاء، عن رسول الله (ص) قال (أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفه: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل في سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي قلبي نوراً، اللهم اشرح لي صدري ويسّر لي أمري وأعوذ بك من وسواس الصدور وتشتت الأمور).

 

موجبات العمى:

أما ما يوجب العمى يوم القيامة هو كل إعراض وصدود عن شرع الله وحكمه وعدم العمل بكتاب الله وسنة رسول الله (ص) في كل شؤون الحياة مما أصبح مألوفاً اليوم في الأسواق ومعاملاتنا التجارية وفي السنائن العشائرية وفي العلاقات الاجتماعية وفي السياسة والحكم وإدارة مؤسسات الدولة وغيرها كثير.

ولكل شريحة في المجتمع امتحانها وابتلاؤها بآيات الله التي يلزم العمل بها فلرجل الدين والطبيب والمدرّس والمهندس والكاسب والزوجة والابن والوالدين وغيرها من العناوين له الآيات والأحاديث التي تخاطبه وتنطبق عليه قوله تعالى (كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا) (طه/126) حيث بلغه تكليفه والمطلوب منه، عن النبي (ص): (ومن قرأ القرآن ولم يعمل به حشره الله يوم القيامة أعمى فيقول: (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً))([9]).

وقد علّمنا هذا الحديث وكلمة الإمام الحسين (ع) السابقة المدى الواسع لمن يمكن أن تشملهم الآية وأنّه لا أحد –حتى الملتزمين بأداء العبادات الدينية- بمنأى عن حشرهم عمياً إذا لم يكونوا مراقبين لله تعالى متّقين عاملين بشكل تفصيلي بآيات الله تعالى.

وهذا يفسّر لنا لماذا يطلب الأئمة (ع) منّا أن نشعر بأنّنا مشمولون بكل آية فيها تخويف وإنذار وتهديد وأنّها ليست مقتصرة على الكافرين والمشركين والمنافقين، ففي وصف سيرة الإمام الرضا (ع) أنّه كان ((يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن فإذا مرّ بآية فيها ذكر جنة أو نار بكى وسأل الله الجنة وتعوّذَ من النار))([10]) وروي عن الإمام الصادق (ع) قوله في صفة الذين يتلون حقّ تلاوته (ويرجون وعده ويخشـون عذابـه)([11]) ونعـود الآن إلـى ذكـر بعـض الروايـات التـي شخّصت بعض موارد هذا الإهمال للأوامر الإلهية الموجب للعمى ومنها:

  • 1- عدم التمسّك بولاية أمير المؤمنين (ع) ، عن الصادق (ع) في قول الله عز وجل (ومن أعرض عن ذكري) قال (ع): يعني ولاية أمير المؤمنين (ع) وعن قوله تعالى (ونحشره يوم القيامة أعمى) قال (ع): (يعني أعمى البصر في القيامة أعمى القلب في الدنيا عن ولاية أمير المؤمنين (ع)، وهو متحيّر يوم القيامة يقول (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً *  قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا) (طه/125-126) قال: الآيات الأئمة (ع) (فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) (طه/126) يعني تركتها، وكذلك اليوم تترك في النار كما تركت الأئمة فلم تطع أمرهم ولم تسمع قولهم)([12]).

ترك الحج وهو مستطيع عن الإمام الصادق (ع) قال (من مات وهو صحيح موسر ولم يحج فهو ممن قال الله عز وجل (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه/124)، قال أبو بصير: قلت: سبحان الله: أعمى قال: نعم إن الله عز وجل أعماه عن طريق الحق)([13]).

([1] ) حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من الزوّار يوم الاثنين 8 ذ.ح 1434هـ المصادف 14/10/2013.

([2] ) (3)  العبارة تحتمل أن تكون إخباراً عن العين والصفقة بأنّهما تعمى وتخسر وقد تكون إنشاءاً بمعنى الطلب من الله تعالى أن يعمي العين ويخسر الصفقة وكلاهما وارد.

 

([4] ) كنز العمال: 1220.

([5] ) غرر الحكم: 6536.

([6] ) غرر الحكم: 3061.

([7] ) نهج البلاغة: الخطبة 105.

([8] ) مصادر الروايات المذكورة في هذه النقاط في ميزان الحكمة: 9/177 وما بعدها.

([9])  ثواب الأعمال: 337 ح1.

([10]) عيون أخبار الرضا: 2/182 ح5.

([11]) تنبيه الخواطر: 2/236.

([12] ) الكافي: 1/361 ح92.

([13] ) الكافي: 4/269 ح6.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى