آية وتفسير

(قبس 24 )ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً

بسم الله الرحمن الرحيم 

(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً)([1])    

 [الروم : 54]

لكي نتفكر في خلق الله وصنعه:

سورة الروم غنية بالآيات التي تدعوا الناس الى التفكر بآيات الله والتدبر فيها للارتقاء بمعرفة الله تعالى ومنها قوله تعالى  (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (الروم-54).

 

(خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ):

والآية تشير الى المراحل التكوينية التي يمر بها الانسان، (خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ) يبدا من ضعف النطفة وهو الماء المهين الذي يتكون منه ويلقح البويضة فتكون علقة تتغذى من جدار رحم الام ثم تتكاثر وتزداد وتتحول العلقة الى مضغة وهي قطعة لحمية صغيرة ثم يخلق الله تعالى العظام ويتكامل نموه، وهو في كل مرحلة من المراحل كائن ضعيف لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ويأتيه رزقه من امه وينمو جسمه بلا ارادة منه.

ثم يولد ويخرج الى الدنيا وهو لا يزال ضعيفاً لا يقدر علـى شـيء فقيّـض

الله تعالى له والدين شفيقين رحيمين محبين له يتوليان رعايته وتربيته ويجلبان له الخير ويدفعان عنه الضرر وخلال ذلك يتقلب في هذه الحالات من الضعف.

 

(ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً):

(ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) حينما تكتمل قواه الجسدية – البلوغ – والعقلية – بالرشد وحسن التصرف – وعلمية – بالتجربة والتعلم – ثم تضاف له قوى اخرى، مثلا – المالية – عندما يبدأ بالكسب والعمل -، والاجتماعية – حينما يصبح في موقع او يكون له عنوان اجتماعي او جاه معروف به – والثقافية – بما تزود من علوم ومعارف – وهكذا تجتمع عنده اسباب القوة التي عبّر عنها الله تعالى في مواضع عديدة ببلوغ الاشّد (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ) (الأحقاف -15)(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) (يوسف-22).

 

(ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً):

(ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) حيث يؤول امره الى الضعف فيظهر عليه وهن الكهولة والشيخوخة وربما يبتلى بالأمراض ولم يعد بتلك القوة حينما كان يركض ويقفز بخفة ونشاط فاصبح يتوكأ حينما يقوم، وتضعف ايضا قواه الذهنية فيفقد قوة الحافظة الى كانت في شبابه حينما كان يحفظ القصيدة الطويلة عن ظهر قلب ويطالع كتبه الدراسية ويجيب عن كل سؤال يوجه اليه، اما اليوم فلا يقدر على شيء من ذلك بل لم يعد يحتفظ بالمعلومات التي كانت عنده، وربما يصاب البعض بالخرف وفقدان الذاكرة او ما يعرف بالزهايمر، فيعود امره من جديد الى الضعف ولكن هذا الضعف اشد من ضعف الطفولة لذا قرن معه (و شيبة) للإشارة الى هذا الفرق فقد كان ضعف الطفولة متجها نحو الصعود والتكامل وخيره مقبل وكان معه والدان يداريانه، اما ضعف الشيبة ففي طريق النزول ومزيد من الضعف وفقدان القوى وليس عنده مثل رحمة الوالدين وشفقتهما قال تعالى (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ) (يس- 68).

وقال تعالى في اشارة لهذا النزول (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) (الحج-5) فاذا كان عنده علم لكنه لما امتد به العمر طويلا فقد تلك المعلومات.

 

الدروس المستفادة من الآية الكريمة:

بعد هذا الشرح الموجز للآية نستخلص عدة رسائل موجهة من خلالها:

الاولى: قدرة الله تبارك وتعالى الذي خلق الانسان عبر هذه المراحل التكوينية، وعلمه تعالى الذي اتقن الصنع بهذه الكيفية البديعة من دون ان يشاركه أحد (يخلق ما يشاء)، ولذا ختمت الآية بقوله تعالى (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)، وهكذا كل الآيات تنتهي بالأسماء الحسنى المناسبة لمضمون الآية، ويحكى ان احدهم قرأ اية (والسارق والسارقة) الى ان ختمها بقوله تعالى (والله غفور رحيم ) فانكر احد الحاضرين ان تكون نهاية الآية هكذا وطلب من القارئ اعادة قراءتها في المصحف فاذا هي (عزيز حكيم) فقال هذا صحيح لان الامر بقطع اليد يناسبه هذه الاوصاف وليس الغفور الرحيم الذي يناسب العفو والصفح لا القطع.

الثانية: رسالة موعظة الى الناس ان لا يغتروا بما عندهم ولا يطغـوا لمجـرد

حصولهم على شيء من اسباب القوة (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) (العلق-6/7) فيظلمون ويعتدون ويظنون انهم قادرون على فعل كل ما يحلوا لهم، فهذه القوة لم تكن موجودة ثم وجدت وهي بعد ذلك تضمحل وتصير الى الضعف، والانسان عاجز عن تغيير هذا الانتقال في المراحل ، والاحتفاظ بقوته وشبابه مدى الدهر (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)(الأحزاب-62).

وهذه الرسالة ليست موجهة الى الافراد فقط بل الى الامم والدول ايضاً التي تغتر بقوتها وجبروتها فتتفرعن وتملأ الارض ظلماً وعدوانا وهي كالإنسان بدأت من ضعف ثم قويت ثم يؤول امرها الى الضعف والانهيار كما هو شأن كل الممالك والامبراطوريات عبر التاريخ فيسمون اوربا اليوم القارة العجوز بعد ان كانت في عنفوان القوة وتبسط سيطرتها من الشرق الاقصى الى الامريكيتين في الغرب الاقصى وهكذا كل الزعامات التي تغتر بكثرة الاتباع كرؤساء العشائر او بقوة المنصب لدى بعض الكيانات السياسية فيطغى ويطلب الدنيا من غير طرقها المشروعة، فعليه أن يأخذ الموعظة من تقلب أحواله ليعرف ان هذه القوة التي عنده ستزول فلا يغتر بها ويطغى ويظلم.

الثالثة: رسالة تطمين لمن في حالة الضر والمعاناة ورسالة تحذير لمن في حالة الرفاه والدعة وبحبوحة العيش بأنه لا يدوم حال على ما هو عليه كما قيل في المثل (دوام الحال من المحال) فمن كان يمر ببلاء وصعوبات وشدة وتظلم الدنيا في عينيه عليه ان لا ييأس ويشعر بالإحباط لان الفرح وزوال البلاء متوقع في كل لحظة، والدنيا متقلبة بأهلها حالاً بعد حال (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح-6) فليتمسك بالأمل ولينتظر الفرج وسيأتي ذلك اليوم وتصبح معاناته في خبر كان كما يقال.

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما             يظنان كل الظن ان لا تلاقيا

 

لنحذر زوال النعمة:

ومن كان في سعة من الحياة ودعة من العيش عليه ان يحذر تبدّل هذه النعمة او زوالها في أي لحظة فيفقد المال او الصحة او المنصب او الجاه او الاتباع أو أي شيء آخر فعليه أن يحذر الدنيا ولا يسكن اليها وإن أقبلت عليه فكم من شخص كان هكذا ثم ادبرت عنه ولربما لأسباب مجهولة أو خارجة عن إرادته ولا يستطيع تفاديها.

كانت الدولة العباسية في أوج زهوها وانتشارها من حدود الصين شرقاً الى غرب افريقيا وكان هارون على رأس هذه الدولة مملوءً بالزهو والاستعلاء، لكنه في ريعان الشباب واقصى زهو السلطة مرض واشرف على الموت فأمر بحفر قبره وكان يقف عليه ويقرأ الآيات الكريمة (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) (الحاقة- 28/29).هذه الرسائل ضمنّها الامام الحسين × في دعاء عرفـــة وفيـــه

قوله × (اِلهى اِنَّ اخْتِلافَ تَدْبيرِكَ، وَسُرْعَةَ طَوآءِ مَقاديرِكَ، مَنَعا عِبادَكَ الْعارِفينَ بِكَ عَنْ السُّكُونِ اِلى عَطآء، وَالْيأْسِ مِنْكَ فى بَلاء)([2]).

هذا الاختلاف في الاحوال بتدبيـرك فساعـة فـي عنـى واخـرى فـي فقـــر

وساعة في عافية واخرى في مرض، وساعة في قوة وأخرى في ضعف وساعة في ليل واخرى في نهار، وساعة في صيف وأخرى في شتاء، وهكذا غيرها، فهذا التبدل والتغيّر الذي يجري بسرعة منع المؤمن الذي له بصيرة في الامور ومعرفة بالله تعالى من أن يطمئن الى حال حسنة ويسترخي لها، ولا ان يصيبه اليأس إذا مرّ بحال سيئة. وفي الحديث (الليل والنهار يبلّيان كل جديد) وما اسرعهما.

 

التفتوا الى هذه الحقائق:

وبالالتفات الى هذه الحقائق تزداد المعرفة عند الانسان، والمعرفة هي اساس التفاضل عند الله تبارك وتعالى، ودعاء الامام الحسين × يوم عرفة غنيٌ بهذه المعارف الالهية، ومنه قوله × بما يرتبط بحديثنا (آلهي عَلِمْتُ بِاِخْتِلافِ الاْثارِ، وَتَنقُّلاتِ الاْطْوارِ، اَنَّ مُرادَكَ مِنّى اَنْ تَتَعَرَّفَ اِلَىَّ في كُلِّ شَيء، حَتّى لا اَجْهَلَكَ في شَيء)([3]) فاختلاف الاثار أي آيات الله في خلقه من ليل ونهار وشتاء وصيف وغير ذلك، ومن تنقلات الاطوار بين شباب وشيخوخة وعافية ومرض وغنى وفقر يُراد منه ان يتعرف الانسان على صفات ربه الحسنى حتى يتأدب بأدب العبودية قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/56) وفسرها الامام الحسين × في بعض ما روي عنه أي (ليعرفون)، قال الشاعر:

وفي كل شيء له اية                         تدل على انه واحد

فالإنسان يقف عاجزاً أمام هـذه الحركـة الكونيـة ولا يملـك إلا ان يكـون

جزءاً من هذا التدبير فيتيقن ان وراء هذه الحركة مدّبر حكيم، عن أمير المؤمنين × قال : (عرفت الله بفسخ العزائم، وحل العقود، ونقض الهمم)([4]).

وانما على الانسان ان يغتنم حال القوة التي يكون فيها ويستثمرها في طاعة الله تعالى قبل فوات الفرصة فان إضاعة الفرصة غصة – كما قيل – والملفت ان الآية اطلقت كلمة قوة ولم تحددّها لتبقى مفتوحة على كل الصور الممكنة لها، فالصحة قوة والشباب قوة والمال قوة والجاه قوة والعلم قوة والمنصب قوة وكثرة الاتباع قوة وهكذا.

وقد جمع النبي ’ في وصيته لابي ذر (رضوان الله تعالى عليه) عدة مصاديق وحالات للقوة وأمرهُ باغتنامها قبل زوالها كلها او بعضها وتحولها الى نقيضها قال ’ فيما روي عنه : (يَا أَبَا ذَرٍّ : اغْتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ :شَبَابَكَ : قَبْلَ هَرَمِكَ .وَ صِحَّتَكَ قَبْلَ سُقْمِكَ . وَ غِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ . وَ فَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ .وَ حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ)([5]).

والوصية كما يظهر موجهة بشكل اساسي الى الشباب([6]) الذين وصفتهم الآية في حال قوةٍ وأن كانت الوصية عامة للجميع ويمكن القول ان الحديث ليس في مقام حصر حالات القوة ومظاهرها بهذه الخمسة فيمكن ان يشمل الحديث كل عناصر القوة الاخرى فيمكن ان نقول (واغتنم علمك قبل جهلك) لان العلم قوة ونور وربما يؤول أمره الى الضياع كما في الآية المتقدمة ( لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) (النحل/70) فعليه ان يستثمر علمه من خلال العمل به لإصلاح نفسه ومجتمعه أولاً ونشره بين الناس ثانياً لان زكاة العلم انفاقه، وبتنميته وزيادته ثالثاً (رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً) (طه/114) لذلك تجد العلماء يعمرون طويلاً ويبقون الى آخر عمرهم يدرسّون ويؤلفون ويبحثون ويقدّمون أحدث الابداعات العلمية.

وهذه الحقيقة أكدها الاطباء وقالوا أن العلاج من الإصابة بالخرف والزهايمر بالشيخوخة يكون بمواصلة المطالعة والقراءة.

 

([1] ) من حديث سماحة المرجع اليعقوبي مع حشد كبير من طلبة جامعة ميسان يوم السبت 4/ج1/1437 المصادف 13/2/2016.

([2] ) مفاتيح الجنان : 311.

([3] ) مفاتيح الجنان : 311.

([4] ) نهج البلاغة قصار الكلمات رقم 250.

([5] ) مكارم الاخلاق 626.

([6] ) راجع شرحها في القبس التالي بعنوان اغتنم شبابك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى