آية وتفسير

حديث حول سورة الطور -3

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد, وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وأفتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.

 

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾ (1)

صدق الله مولانا العلي العظيم

 

أقسم الله تعالى في هذه الآيات من مطلع سورة الطور بأمورٍ خمسة:

1-فأقسم أولاً بالطور.

2-وأقسم بالكتابٍ المسطور.

3- وأقسم بالبيت المعمور

4-وأقسم بالسقف المرفوع.

5-وأقسم بالبحر المسجور.

 

وقد تحدَّثنا فيما سبق حول قَسَمِه تعالى بالطور، وبينَّا ما هو المراد من الطور، والحديث في هذا اليوم إنْ شاء الله تعالى حول قَسَمِه بالكتاب ٍ المسطور.

 

يقول تعالى: ﴿وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ﴾

 

فالكتاب: هو المكتوب، فهو مصدر أُريد منه اسم المفعول.

 

والرَق: هو الجلد الرقيق الذي يُكتب عليه الكتاب.

 

والمسطور: هو حروف الكتابة المنتظمة في سطور على ذلك الرَق والذي هو الجلد الرقيق، ولعلَّه استعمل الرَق وأراد منه كلَّ شيءٍ يُكتب عليه الكتاب مثل الألواح والأكتاف وغيرها، فهو قد خصَّ الجلد الرقيق بالذكر إمَّا لكونه متعارفاً أو لأنَّه الأفضل ممَّا كان يُكتب عليه الكتاب.

 

والمنشور من النشر وهو البسط، فالكتاب المنشور هو المبسوط ويقابله المطوي.

 

هذا وقد اختلف المفسِّرون فيما هو المقصود من الكتاب المُقسَم به في هذه السورة المباركة، وأهمُّ ما قيل في ذلك أربعةُ أقوال:

 

الكتاب المسطور هو اللوح المحفوظ:

الأول: هو أنَّ المراد من الكتاب المُقسَم به في هذه السورة المباركة هو الكتابُ الذي كتبه الله عزَّوجل على خلقه أي أوجده بمشيئته، فسطَّر فيه ما قضاه وقدَّره عليهم، فالمدوَّنُ في هذا الكتاب هو كلُّ ماهو كائنٌ ومقدَّرٌ على الخلق إلى اليوم الذي يُبعث فيه الناس لربِّ العالمين، وهو إنَّما كتبه وأوجده ليقرأه ملائكته في السماء، فيمتثلون أوامره في ما يرتبط بشؤون الأقدار التي قدَّرها الله عزَّوجل على هذا الخلق.

 

الملائكة هم المدبِّرون بأمر الله لشئون الكون:

وهذا الكتاب -كما أفاد بعضُ المفسرين – هو اللوح المحفوظ. وقد أُهِّل ملائكة السماء لقراءته أو لقراءة شيءٍ منه لأجل أنْ يكون لهم بمثابة النظام الذي يعتمدونه في مقام تدبير شؤون الخلق والكون، فإنَّ الله عزَّوجل قد جعل من ملائكته جنوداً له في تدبير شؤون الكون، لذلك وصفهم القرآن في بعض الآيات بقوله: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ (2) . فالتدبير لبعض شئونات االخلق والكون هي إحدى وظائف الملائكة: فمنهم من يقبض الأرواح كما قال تعالى: ﴿إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ﴾ (3) فالذي يُباشر عمليَّة قبض الأرواح هم بعضُ ملائكة الله عزوجل.

 

والذي ينزل بالوحي من عند الله تعالى على أنبيائه ورسله هم بعض ملائكته وهو جبرئيل (ع) قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (4)

 

والذين يرصدون على الإنسان أقواله وأفعاله هم بعض ملائكة الله، كما قال تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (5) وكذلك فإنَّ الله تعالى قد يُكلِّف بعض ملائكته لإيقاع العذاب على العصاة كما وقع لقوم لوط (ع) : ﴿قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (6) .

 

وهكذا فإنَّ الذين يُباشرون الكثير من المهام المرتبطة بالشؤونات التكوينية هم الملائكة أيضاً، لذلك ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (7) . وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ (8) . وقوله تعالى: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ (9) .

 

وورد كذلك في وصف الملائكة أنهم: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (10 فالكثير من شؤونات الكون وتدبيره يتمُّ بواسطة الملائكة حتى الأمور التي لها أسبابٌ تكوينيَّة، فإنَّ المشرف على تسبيب هذه الأسباب التكوينيَّة والعلل التي تكون وراء العلل المباشرة هم الملائكة، فما يرتبط مثلاً بإنزال القطر وتقسيم الأرزاق والمسائل التي ترتبط بالآجال والشؤونات المرتبطة بتسيير الأفلاك كالنجوم والكواكب والشمس والقمر، وتعاقب الليل والنهار. فإنَّ وراء العلل التكوينية لكلِّ ذلك مدبِّرون هم الملائكة، وهؤلاء الملائكة يتلقون أوامرهم من الله عزَّ اسمه وتقدَّس.

 

فالمراد من الكتاب الذي أقسم اللهُ عزَّ وجل به في هذه الآية المباركة هو الكتاب الذي كتبه الله عزوجل ليقرأه ملائكتُه في مقام إنفاذ أوامره فيما يرتبط بتدبير شؤونات الكون، هذا هو القول الأول فيما هو المراد من قوله تعالى: ﴿وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ﴾.

 

الكتاب المسطور هو التوراة:

الثاني: من الأقوال هو إنَّ المراد من الكتاب الذي أقسم به القرآن في هذه الآية هي ألواح موسى (ع) التي نُسخت فيها التوراة، وذلك بقرينة القسم أولاً بالطور، والطورُ مرتبطٌ بموسى (ع)، حيثُ أن الطور كما أوضحنا فيما سبق هو الجبل الذي كلَّم الله تعالى عنده موسى (ع) تكليما، فالقرآن -بناءً على هذا القول- أقسم في مطلع سورة الطور بأمرين مرتبطين بموسى (ع) فأقسم أولاً بجبل الطور، ثم أقسم بالتوراة. فالمراد من قوله: ﴿وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ﴾ هو التوراة أو ما يُعبَّر عنه بألواح موسى كما قال تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ (11)

 

ولعلَّ ممَّا يؤيِّد ذلك ما ورد في الدعاء المأثور عن الرسول (ص) والذي علَّمه السيدة فاطمة (ع) : “الحمد لله الذي خلق النور من النور، وأنزل النور على الطور، في كتاب مسطور، في رَقِّ منشور، بقدر مقدور، على نبيٍّ محبور (12).

 

الكتاب المسطور هو القرآن الكريم:

الثالث: هو إنَّ المراد من قوله تعالى: ﴿وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ﴾ هو القرآن الكريم، فهو المُقسمُ به في الآية الشريفة، ووصفُه بأنَّه مسطور وأنَّه في رَقِّ منشور، نشأ عن أنَّ آيات القرآن بعد وحيها للرسول الكريم (ص) يتمُّ نسخها -بأمر النبي (ص) – من قِبَل كتَّاب الوحي.

 

فإذا كتِبَها كتَّاب الوحي أمرَ النبيُّ (ص) بوضع نسخةٍ من تلك الآيات عند منبره الشريف لمن يرغب من المسلمين في استنساخها فيُبادر الكثير منهم إلى نسخها أو استئجار مَن ينسخها لهم ثم يعكفون على تلاوتها وحفظها والاتِّعاظ بمضامينها، ويحملها بعضهم إلى المناطق الأخرى التي يُوجد فيها مسلمون، ولذلك وصلنا القرآن متواتراً تواتراً لا نظير له، لماذا؟

 

لأنَّ النبيَّ الكريم (ص) لا يكتفي بقراءته على المسلمين في الصلاة أو من على المنبر، بل يتصدَّى الرسول (ص) لإملائه على كتَّاب الوحي، وكتاب الوحي كُثُر، يصل عددهم إلى أربعين رجلاً، هؤلاء يكتبون ما ينزل من القرآن أولاً بأول، فإذا كتبوه وضعوا نسخةً منه عند المنبر الشريف فينسخ منها المسلمون ممن يُجيد القراءة والكتابة، ثم تتحلَّق الناس حلقاً، فمن يُجيد منهم القراءة يقرأ هذه الآيات حتى يحفظها من هو معهم ممن لا يُجيد القراءة وقد كلَّف النبيُّ (ص) القرَّاء والحفَّاظ بتعليم وتحفيظ من لا يُجيد القراءة، ويستأجر النساء -ممَّن يُحسنَّ القراءة – بعض الكتَّاب لينسخوا لهنَّ الآيات النازلة من النسخة التي هي عند المنبر الشريف ثم يتصدَّى النساء العارفات بالقراءة لتعليم وتحفيظ غير العارفات منهن، وبذلك يكثر الحفَّاظ وتكثر النسخ ويتسع انتشارها في الأوساط.

 

إذن فالمُقسَم به في قوله تعالى: ﴿وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ﴾ هو القرآن الذي يقرأه المؤمنون، ويستنسخونه في الرقاق وهي الصحائف.

 

عليٌّ صحب القرآن منذُ لحظة نزوله وحتى آخر آيةٍ نزلت:

هذا هو القول الثالث وقبل بيان القول الرابع يحسن بنا التذكير بأنَّ الذي صحب القرآن منذُ أول يومٍ نزل وحتى آخر آيةٍ نزلت على قلب رسول الله (ص) وكان كاتب الوحي الأول هو عليُّ بن أبي طالب (ع)، فهو الوحيد من بين كتَّاب الوحي الذي كان له شرف الكتابة للقرآن من أوله إلى آخره، ومنذُ أول لحظةِ نزوله وحتى آخر آيةٍ نزلت، لذلك ورد عنه (ع) أنَّه قال: “ما نزلت من القرآن آيةٌ إلا وقد علمتُ أين نزلت، وفيمَن نزلت، وفي أيِّ شئ نزلت، وفي سهلٍ نزلت، أو في جبل نزلت” (13)

 

وفي كتاب الكافي للكليني روى بسنده إلى عليٍّ أمير المؤمنين (ع) قال: فما نزلتْ على رسول الله (ص) آيةٌ من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتُها بخطِّي وعلَّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصَّها وعامَّها، ودعا الله أن يُعطيني فهمها، وحفظها، فما نسيتُ آيةً من كتاب الله ولا علماً أملاه عليَّ وكتبتُه، منذُ دعا الله لي بما دعا..” (14)

 

وورد كما في أنساب الأشراف للبلاذري وفي الطبقات لابن سعد بسنده عن سليمان الأحمسي عن أبيه قال: قال عليٌّ (ع) انَّه قال: “والله ما نزلت آية الا وقد علمتُ فيما نزلت وأين نزلت وعلى مَن نزلت: إنَّ ربِّي تعالى وهب لي قلباً عقولاً ولساناً طلقا” (15) .

 

وفي طبقات ابن سعد أيضاً بسنده عن أبي الطفيل قال: قال عليٌّ (ع) : “سلوني عن كتاب الله فإنَّه ليس من آيةٍ إلا وقد عرفتُ بليلٍ نزلت أم بنهار في سهلٍ أم في جبل” (16).

 

فعليٌّ (ع) كان يكتب ما ينزل من آيات القرآن حين لم يكن ثمة مسلمون وبقي كذلك على هذه الحال حتى بعد أنْ دخل في دين الله تعالى الكثيرُ من الناس فكان فيهم من يُحسن القراءة والكتابة وتصدَّى بأمر النبي (ع) لكتابة الوحي إلا انَّ علياً (ع) ظلَّ وحده الذي لم تنزل آيةٌ إلا وكُلِّف في وقتها بكتابتها لذلك فالمصحف الذي كان بخطِّ عليٍّ (ع) كان يتميَّز بالعديد من المميزات التي تفتقر إليها مصاحف الصحابة، فكان المصحف الذي كتبه عليٌّ (ع) مرتَّباً بحسب تاريخ النزول.وكان محشَّىً ببيان معاني الآيات والتي تلقَّاها عليٌّ (ع) عن الرسول (ص) .

 

عليٌّ أول مَن جمع القرآن على ترتيب النزول:

فبُعيد رحيل الرسول (ص) إلى ربِّه عكف عليٌّ (ع) على جمع القرآن بين دفتين امتثالاً لوصية الرسول (ص) وأقسم على نفسه ألا يضع رداءه على ظهره حتى يجمعه في مصحفٍ واحد، فالقرآن وإنْ كان مكتوباً كاملاً عنده لكنَّه عكف على جمعه في مصحفٍ واحد وترتيبه بحسب زمن النزول، وحين أتمَّ ذلك حمله إلى المسلمين في مسجد الرسول (ص) كما ورد عن أبي عبدالله (ع) قال: أخرجه عليٌّ (ع) إلى الناس حين فرغ منه وكتبه فقال لهم: هذا كتابُ الله عز وجل كما أنزله الله على محمدٍ (ص) وقد جمعتُه من اللوحين فقالوا: هو ذا عندنا مصحفٌ جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه، فقال أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبدا، إنَّما كان عليَّ أنْ أُخبركم حين جمعتُه لتقرؤوه”(17).

 

وفي رواية الشيخ الصدوق قال: قال أمير المؤمنين (ع)، لمَّا جمعه؛ فلما جاء به؛ فقال لهم: هذا كتابُ الله ربِّكم، كما أُنزل على نبيِّكم، لم يزد فيه حرف، ولم ينقص منه حرف. فقالوا: لا حاجة لنا فيه، عندنا مثل الذي عندك. فانصرف، هو يقول: فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلاً؛ فبئس ما يشترون”(18).

 

لذلك يتأسَّف العديد من علماء العامة أنَّهم لم يحظوا برؤية المصحف الذي كان بجمع عليِّ بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام)، ذلك لأنَّ الكثير من الإشكالات لا يكون لها وجهٌ لو تمَّ الوقوف على أزمان النزول وأسبابه فلو تيسَّر العلم بذلك لما وقع الخلاف في مثل الناسخ والمنسوخ، ولاتَّضح الكثير من مفادات الآيات، ولتبدَّدت الكثير من المبهمات الناشئة عن تداخل السياقات وعن الجهل بأزمان النزول وأسبابه، ولهذا فإنَّ الذي حال دون وصول هذا المصحف للمسلمين يكون قد حرمهم من الفهم للكثير من الآيات بالنحو الذي ينبغي أن يكون عليه الفهم، فقاتل الله التعصُّب والتقمُّص للأدوار على غير أهليَّة فكم قد جنى ذلك على هذه الأمة، على أي حال، هذا هو القول الثالث في معنى قوله تعالى: ﴿وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ﴾.

 

الكتاب المسطور هو صحائف الأعمال:

الرابع: هو انَّ المراد من قوله تعالى: ﴿وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ﴾ هو ما يكتبه الحفَظَة من أقوال وأفعال كلِّ إنسانٍ منذُ بلوغه سنَّ التكليف إلى انْ يحينَ أجلُه ويرحل عن هذه الدنيا، فما من انسانٍ إلا وله كتاب يكتبه عليه الحفَظَة كما أفاد ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾(19) وقوله تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (20)، فهو كتاب يتألَّف من مجموع ما يُدوِّنه الملكان رقيبٌ وعتيد، وبطبيعة الحال سوف يكون ذلك الكتابٌ ضخماً متكاملاً قد أُحصي فيه كلُّ عملٍ وقولٍ صدر عن الإنسان في الدنيا، فإذا جاء هذا الإنسان يوم القيامة، وجد هذا الكتاب وقد أُحصىَ فيه كلُّ شيءٍ ممَّا كان قد فعله في هذه الدنيا كما قال تعالى: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ (21)، فإذا أطلع على هذا الكتاب فسوف يجده قد اشتمل على كلِّ فعلٍ وقولٍ صدر عنه، لذلك ورد في القرآن الكريم: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ (22) .

 

فالمراد من الكتاب الذي أقسم اللهُ تعالى به في هذه الآية المباركة هي صحائف الأعمال التي يكون منها لكلِّ فردٍ صحيفة، يكتبها عليه الحفظة ثم يتلقَّاها الإنسان يوم القيامة فيجد فيها كلَّ عمله حاضراً كما ورد ذلك عن أهل البيت (عليهم السلام) انَّه: إذا جمع اللهُ الخلق يوم القيامة دفع إلى كلِّ إنسان كتابه فينظر فيه، فيقول: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ (23) . وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ (24) .

 

وروى العياشي في تفسيره عن خالد بن نجيح عن أبي عبدالله (ع) انَّه قال: “إذا كان يومُ القيامة دُفِعَ إلى كلِّ إنسانٍ كتابه، ثم قيل له: اقرأ، فقلتُ-خالد بن نجيح سأل الإمام-: فيعرف ما فيه؟” يعني انَّه هل يتذكر كلَّ الأشياء التي فعلها، إذا اطَّلع على ما في الكتاب أو انَّه لا يتذكر “فقلتُ: فيعرف ما فيه؟ فقال (ع) : إنَّ الله يُذكِّره، فما من لحظةٍ، ولا كلمةٍ، ولا نقل قدم، ولا شيءٍ فعله إلا ذكره، كأنَّه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾” (25) فهم يتذكَّرون كلَّ أفعالهم الصغيرة والحقيرة فضلاً عن الخطيرة لذلك لا يقولون هذا لم نفعله وذلك لم نفعله، وإنَّما يقولون مستغربين: كيف أحصى هذا الكتاب كلَّ شيءٍ فعلناه !! فلم يترك شيئاً إلا وذكره، وهذا يُعبِّر عن أنَّهم يتذكرون كلَّ شيء فعلوه: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾.

 

تطاير الكتب يوم القيامة:

التلقِّي يوم القيامة لكتاب الأعمال هو الذي تُعبِّر عنه الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) بتطاير الكتب يوم القيامة، فالمراد من تطاير الكتب هو هذا المعنى الذي أشارت إليه آياتٌ عديدة مثل قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ﴾ (26) .هل رأيتم كم يحرص المتفوِّق في الدراسة على إراءة شهادته لكلِّ من يلقاه فهو يعرضها في مجلسه حتى يشاهدها كلُّ من يزوره، وأما الفاشل في دراسته فإنَّه يحرص على تغييب شهادته حتى لا يراها أحد، وإذا استطاع أن يُمزِّقها فإنَّه لا يتردَّد في تمزيقها. فالإنسان الذي اجتاز ما أُنيط به من تكليفٍ بنجاح فإنَّه يقول للناس مستبشراً مفتخراً: ﴿هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ﴾ (27). ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾ (28) يعني انَّه يا ليت الموت الذي وقع عليَّ كان هو النهاية، لكنَّه لن تكون النهاية بل هي البداية واقعاً، فالموت هو بداية حياةٍ جديدة وفصلٍ جديد، ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ﴾ (29) .

 

كيفية تطاير الكتب:

ولمزيدٍ من البيان حول تطاير الكتب يوم القيامة نقول إنَّ ذلك يقع بعد أنْ يُحشر الناس جميعاً على صعيد المحشر يوم القيامة فإنَّه في أحد مراحل ذلك اليوم يكون تطاير الكتب، إذ انَّ ليوم الحساب مراحل متعددة فهو يمتد إلى خمسين ألف سنة كما ورد في القرآن الكريم، في إحدى تلك المراحل يحشر الناس على صعيدٍ واحد، وهم من لدن آدم إلى يوم يُبعثون بالمليارات، فإذا كان البناء هو أن ينتظر كلَّ فرد دوره ليستلم كتابه فإنَّ ذلك سوف يطول، فلعلَّه لذلك تتطاير الكتب، فيرى الناس الكتب وصحائف الأعمال وهي تحلِّق فوق رؤوسهم، وكلُّ كتابٍ يعلم إلى أين يتجه، ومَن هو صاحبه فلا تستغرب إنَّ الله على كلِّ شيء قدير.

 

فالجلود يوم القيامة تنطق، كيف تنطق الجلود وليس من شأنها النقطق؟! ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (30)

 

فإذا وصل الكتاب إلى صاحبه كان من فوقه، فإنْ كان مؤمناً تناول كتابه بيمينه ليقرأه، وهذا هو معنى: ﴿أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ وفي آية أُخرى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ (31) فالقدرة على تناول الكتاب باليمين هي من الأمارات والعلائم التي يتعرف بها الإنسان على حسن عاقبته، فقبل أن يقرأ ما في الكتاب يعلم -إذا كان قد تناوله بيمينه -أن حسابه سوف يكون ميسوراً، ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ﴾ (32) يرجع، ﴿وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ (33) .

 

آخرون يبذلون قصارى جهدهم من أجل أن يتناولوا الكتاب بيمينهم، ولكنْ دون جدوي فهي عاجزةٌ عن أنْ ترتفع لتتناول كتابها، فلا يسعه إلا أنْ يمدَّ شماله فيتناول الكتاب بها، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ﴾ (34) .

 

هناك كما يذكر البعض وكما تُشير لذلك بعض الآيات مَن هو أكثر إجراماً من هذا الثاني، فيمينه مغلولةٌ أو كأنَّها مغلولة فهو لا يستطيع أن يتناول الكتاب بها كما انَّه لا يستطيع تناول الكتاب بيساره، فالكتاب ليس أمامه ولا هو فوق رأسه، بل هو من وراء ظهره، وذلك يضطره للانحراف ليتناول الكتاب من وراء ظهره، بشماله وتلك أمارة على خيبته وسوء عاقبته، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾ (35). فهذا الموقف أعني تطاير الكتب هو أحد أهوال يوم القيامة، وهي كثيرة أهوال، فمنها العبور على الصراط وهو من أعظم أهوال يوم القيامة، ومنها الميزان التي توزن به الأعمال، فإن ترجحت أعمال الخير كان صاحبها من السعداء، وإن كانت الذنوب هي الراجحة كان صاحبها من الأشقياء، هذا من أهوال يوم القيامة.

 

فتطاير الكتب هي من أهوال يوم القيامة ويمكن التنظير لها بالحالة النفسية التي يكون عليها الطلبة انتون قيسوا الأمر على الطلبة يوم خروج النتائج، فالطالب يظلُّ في ذلك الوقت مضطرب الحال فهو لا يدري ما هي النتيجة التي تنتظره، وهل سوف يحظى بالنجاح أو يكون حظه الفشل، هذه حالة من الاضطراب، وهذه الحالة من التوجس والترقُّب هي التي يكون عليها الناس عند تطاير الكتب خصوصاً وأنَّ الأثر الذي سوف يترتب على النجاح أو الفشل خطير ومصيري، فالفشل يعني حتمية الدخول في النار التي يطلع الناس على أهوالها قبل إعلان النتائج كما قال تعالى: ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾(36) لذلك فهم يُدركون فظاعة هذا المصير البائس ولهذا يتملَّكُهم الرعب في ظرف التطاير للكتب.

 

ومن هنا يتحتَّم على الإنسان العاقل أن يُمهِّد لذلك اليوم وما تكتنفه من الأهوال بالعمل الصالح، وتصفية النفس وتزكيتها، وترك الذنوب، والسعي الجاد في الاستزادة من الطاعات ومن كلِّ ما هو مرضيٌّ من الأفعال لكي يتخطى تلك العقبات يوم القيامة بنجاح، فكم سيكون مسرورا ً كما أفاد القرآن حينما يتناول كتابه بيمينه وكم سيكون بائساً عندما يتناول كتابه بشماله.

 

زيارة الصادق والرضا (ع) تقي من أهوال تطاير الكتب:

نختم الحديث بروايتين -نتيمَّنُ بهما -عن أهل البيت (عليهم السلام):

الرواية الأولى: وردت عن الإمام الصادق (ع) يقول: “من زارني في حياته” في ذلك كناية عن التمسك بخطِّ الإمام، لأنَّ الزيارة تُعبِّر عن علاقةٍ وثيقة بينه وبين إمامه، هذه العلاقة تدفعه نحو الإلتزام بتوصيات الإمام (ع)، وهل توصيات الإمام (ع) إلا الحض على الطاعة لله، والورع عن محارمه والتقوى له، والخشية منه، يقول (ع) الإمام الصادق: “من زارني” في حياته زرتُه بعد وفاته” هو لا يحتاجني كثيراً في حياته لكنه يحتاجني بعد وفاته، “من زارني في حياته زرته بعد وفاته – فيشفع له حتى لا يبتلى بعذاب القبر- وعند تطاير الكتب” ففي ذلك الموقف المرعب يحتاج فيه الانسان إلى سند، وسندنا أهل البيت (عليهم السلام)، “وعند تطاير الكتب وعند الصراط وعند الميزان” كلُّ ذلك تحظى به إذا زرتَ جعفر ابن محمد (ع) في البقيع.

 

والرواية الثانية: رواها ابن قولويه بسنده إبراهيم بن إسحاق النهاوندي، قال: قال أبو الحسن الإمام الرضا (ع) : “من زارني على بعد داري وشطون مزاري أتيتُه يوم القيامة في ثلاثة مواطن حتى أُخلِّصه من أهوالها:” فالزيارة ليست للنظر والتحية كما هي زيارتنا للمرضى، فنحن حين نزور المريض لا نملك دفع المرض عنه فليس بوسعنا أن نرفع عنه داء أو نخفف عنه ألماً سوى ان لزيارتنا راحة لنفسه، زيارة الإمام الرضا (ع) لزواره لن تكون كذلك يقول (ع) : أتيتُه يوم القيامة في ثلاثة مواطن حتى أُخلِّصه من أهوالها ” فالأثر المترتب عن زيارته هو خلاص المزور من تلك الأهوال، يقول (ع) : “أتيتُه يوم القيامة في ثلاثة مواطن حتى أُخلِّصه من أهوالها” وما هي تلك المواطن الثلاث؟ قال (ع): “إذا تطايرت الكتب يميناً وشمالا”، فعندما تتطاير الكتب فلم ندري أيَّ كتاب سيصلنا، وبأي يدٍ سنتناوله باليمين أوبالشمال أو من وراء الظهر، في هذه اللحظة يزور الإمام (ع) زواره “إذا تطايرت الكتب يميناً وشمالا، وعند الصراط، وعند الميزان” (37) في هذه المواطن الثلاث يزور الإمام الرضا (ع) زواره ليخلِّصهم من أهوال هذه المواطن الثلاثة.

 

والحمد لله رب العالمين.

 

الشيخ محمد صنقور

 

 

 

1– سورة الطور/1-8.

2– سورة النازعات/5.

3– سورة الأنعام/61.

4– سورة البقرة/97.

5– سورة ق/17-18.

6– سورة الحجر/58-59.

7– سورة الفتح/4.

8– سورة المدثر/31.

9– سورة الأنبياء/26-27.

10– سورة النحل/50.

11– سورة الأعراف/145.

12– “الحمد لله الذي خلق النور من النور، وأنزل النور على الطور، في كتاب مسطور، في رق منشور، بقدر مقدور، على نبي محبور”. بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 43 ص 67.

13-الأمالي -الشيخ الصدوق- ص 350.

14-الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 64.

15-الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج 2 ص 338، أنساب الأشراف -أحمد بن يحيى بن جابر (البلاذري) – ج 2 ص 99.

16-الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج 2 ص 338.

17-الكافي -الشيخ الكليني- ج 2 ص 633.

18-الاعتقادات في دين الإمامية -الشيخ الصدوق- ص 86.

19-سورة الإنفطار/10-12.

20-سورة ق/17-18.

21-سورة الإسراء/13-14.

22-سورة الكهف/49.

23– سورة الكهف/49.

24– سورة التكوير/10.

25– بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 7 ص 315.

26– سورة الحاقة/19.

27– سورة الحاقة/19-20.

28– سورة الحاقة/25-27.

29– سورة الحاقة/25-29.

30– سورة فصلت/21.

31– سورة الإنشقاق/7-8.

32– سورة الإنشقاق/8-9.

33– سورة الإنشقاق/9.

34-الحاقة/25.

35– سورة الإنشقاق/10-12.

36– سورة ق/22.

37– بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 99 ص 40.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى