غير مصنف

الشيطانُ واحدٌ أو متعدِّد؟ ومساحةُ تأثيره

المسألة:

عندما نتحدَّثُ عن الشيطان ودوره في إغواء الإنسان وإضلاله، هل إنَّ الشيطان وجود واحد مسؤولٌ عن إغواء كافَّة الناس، أم إنَّ لكلِّ إنسانٍ شيطانه؟ وما هو مجال وسوسته؟

 

الجواب:

إبليس شخصيَّةٌ لها وجودٌ واقعي:

الواضح من آياتِ القرآن الكريم انَّ ابليس شخصيَّةٌ لها وجودٌ واقعي، فهو ليس شخصية رمزية كما توهَّم البعض كما إنَّها ليستْ حقيقة نوعية قابلة للصدق على كثيرين كما هو الشأن في مفهوم مثل الحيوان والنبات والملائكة والجن، فإنَّ هذه العناوين حقائق نوعية تصدقُ على أفرادٍ كثيرة، وابليس ليس كذلك بل هو ذاتٌ متشخِّصة لها وجودٌ واقعيٌّ في الخارج، فهو فردٌ كان في مصافِّ الملائكة وإنْ لم يكن من جنسهم، حيثُ كان من جنس الجنِّ الذين أخبر القرآنُ عن انَّهم خُلقوا من نار إلا انَّ الله تعالى رفعه إلى مصافِّ الملائكة فكان ضِمْنَ مَن أمرهم الله تعالى بالسجود لآدم -ع- وحين أبى واستكبر طرده اللهُ تعالى من رحمته، وحينذاك اتَّخذ لنفسه بسوء اختياره طريقَ الإغواء والتضليل لبني آدم -ع-.

 

قال تعالي يحكي خطاب إبليس لربِّه بعد طرده إيَّاه من رحمته: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾(1) وقال في آية أخرى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾(2) وفي آيةٍ ثالثة: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾(3).

 

إبليس هو إمام الشياطين:

فالشيطان الذي يُسنَدُ إليه الإغواء والتضليل للإنسان هو ابليس الذي أبى أنْ يسجد لآدم -ع- فطرده اللهُ تعالى من رحمته، نعم أفاد القرآن انَّ لأبليس جنوداً موكَّلين من قبله في إغواء الناس وتضليلهم كما يظهر ذلك من مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾(4) وقوله تعالى: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ﴾(5) وقوله تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾(6).

 

فظاهر الآية الأولى انَّ إبليس هو الشيطان الأكبر وانَّه إمام الشياطين وهم تبعٌ له يصدرون عن أمره، كما إنَّ الآية الثانية ظاهرةٌ في انَّ ابليس هو مَن جنَّدَ الشياطين لخدمة مآربه، ولهذا يصحُّ اسناد الإغواء لكلِّ فردٍ من بني آدم إلى إبليس وإنْ لم يكن هو المباشر للإغواء، وذلك لأنَّ الشياطين المباشرين لإغواء الناس جنودٌ له يمتثلون أوامره ويناقدون لقراراته.عيناً كما هو الشأن في نسبة الإماتة لملَك الموت الموكَّل من قبل الله تعالى في قبض الأرواح، فإنَّ لملَك الموت جنوداً من الملائكة تتولَّى شأن القبض لأرواح العباد، ولذلك تصحُّ نسبة الإماتة لملَك الموت كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾(7) فالآية أسندتْ قبض أرواح جميع العباد ﴿يَتَوَفَّاكُمْ﴾ لملَك الموت رغم انَّه قد لا يكون هو المباشر لقبض الكثير من الأرواح، وما ذلك إلا لأنَّ ملَكَ الموت هو الموكَّل من قبل الله تعالى بهذه المهمَّة وإنَّ المباشرين لقبض الأرواح من الملائكة يصدرون عن أمره بإذن الله تعالى، فلهذا صحَّ إسناد الإماتة لملَك الموت، ويصحُّ إسنادها أيضاً للملائكة المباشرين لقبض الأرواح كما قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾(8).

 

فالإغواء كذلك يصحُّ إسناده لإبليس رغم انَّه قد لا يكون هو المباشر للإغواء لكنَّه حيثُ كان هو الآمر وكان المباشرون للإغواء جنوداً له يأتمرون بأمره ويلتزمون وصاياه ويعملون وفقَ ما يُخطِّطه لهم لذلك صحَّ إسناد الإغواء إليه كما صحَّ إسناده إليهم. فإبليس شريكٌ في غواية كلِّ غويٍّ من بني آدم -ع-، لأنَّه إمَّا انْ يكون هو المباشر في إغوائه أو انَّ الذي عمل على إغوائه واحدٌ أو جماعةٌ من جنوده، فإليه ترجع غواية كلِّ غويٍّ من ذرية آدم -ع- وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾.

 

الإغواء قد يتعاقبُ عليه عددٌ من الشياطين:

ثم إنَّ الظاهر من بعض آيات القرآن انَّ الإغواءَ للإنسان قد يتمُّ بواسطة شيطانٍ واحد من الشياطين المجنَّدين من قبل إبليس كما يظهر ذلك من قوله تعالى: ﴿قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ﴾(9) وقد يتمُّ الإغواء بواسطة عددٍ من الشياطين كما يظهر ذلك من مثل قوله تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾(10) وكذلك قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾(11) فإنَّ الظاهر من الآية الأولى انَّ عدداً من الشياطين يتعاقب نزولها على بعض الغُواة أو انَّهم يكلَّفون مجتمعين بالنزول على قلب ذلك الأفَّاك يعملون على الإمعان في تضليله أو تجنيده، ويظهر من الآية الثانية انَّ عدداً من الشياطين يتواثبون على إخطار الوسوسة في نفس المستهدَف من بني آدم.

 

وكذلك فإنَّ قوله تعالى: ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ﴾(12) يدلُّ على انَّ الشياطين قد تتآزر على غواية رجلٍ واحد من بني آدم.

 

الشياطين يتواصلون فيما بينهم:

ويظهر من بعض الآيات انَّ الشياطين يتواصلون فيما بينهم ويُوحي بعضهم لبعض الطرائق التي يرجون أنْ تكون ناجعة في المضادة لعمل الأنبياء فهم يستعينون بذلك التواصل على تبادل الأفكار والمكائد كما يستعينون بذلك التواصل على تجنيد شياطين من الإنس يتوسَّلون بهم للوصول إلى ما يبتغونه من الصدِّ والحيلولة دون تأثير دعوات الأنبياء في أُممهم كما يظهر ذلك من قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾(13). فشياطينُ الجن يُوحي بعضُهم إلى بعض ويتعلَّم بعضُهم من بعض وسائلَ المكر والإغواء، ويُلقي شياطينُ الجن في رَوْع بعض شياطين الإنس وسائلَ الإغواء والمكر والمكايدة فيُوحي -خفيةً- شياطينُ الإنس بذلك إلى نظرائهم من شياطين الإنس، ويُؤيد هذا المعنى وانَّه هو المراد من الآية المذكورة ما ورد في تفسيرها عن أبي جعفر الباقر -ع- أنَّه قال: “إنَّ الشياطين يَلقى بعضُهم بعضا فيُلقي إليه ما يغوى به الخلق حتى يتعلَّم بعضُهم من بعض”(14).

 

مشاعر الإنسان هي مدخل الشيطان:

وأما المدخل الذي يلجُ منه الشيطانُ وجنودُه لإغواء الناس فهي مشاعر الأنسان والتي منها الشهوةُ وحبُّ الذات والأماني والخوفُ والحزنُ والحبُّ والبغضُ والغضبُ واليأسُ والرغبة، فمثل هذه المشاعر الكامنة في النفس -والتي لا يخلو منها انسان بمقتضى طبيعة خلقه وتكوينه- يتمُّ توظيفها من قبل الشيطان لإغواء الإنسان.

 

وتوظيفُ هذه المشاعر قد يتمَّ بواسطة التحفيز لها لتطغى على مقتضيات التعقُّل والحكمة كما يُستفاد ذلك من مثل قوله تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(15) فهو يستثمر قابليَّةَ الخوف عند الإنسان فيُخطر في نفسه دواعي الخوف رغم إنَّ الواقع لا يستدعي الخوف لكنَّ الشيطان يُوهم الإنسان بأنَّ مبرِّرات الخوف -في هذه القضية أو تلك الواقعة- قائمة فينبعثُ الخوفُ في نفسه لتخيُّله انَّ مبرِّراتِه قائمة، لذلك ينصرف عمَّا تقتضيه الحكمة في تلك القضية انسياقاً مع مشاعر الخوف الذي تملَّكته نتيجة إيهام الشيطان له بأنَّ أسباب الخوف متوافرة، وهذا هو معنى استفزاز الشيطان وتحفيزه لمشاعر الخوف عند الإنسان والذي يُؤدِّي به إلى الخروج عن حدِّ الاعتدال أو الجنوح به إلى سلوكٍ ليس له منشأ سوى الوهم.

 

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾(16) فهو يُخطر في النفس ما يستدعي مشاعر الحزن أو القلق والتوجُّس رغم انَّ أسباب الحزن التي أخطرها في نفس الإنسان لم يكن لها واقعٌ أو انَّها لا تستوجب الحزن والتوجُّس كما هو مفاد قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ فالشيطان يُلقي في رَوْع الإنسان صوراً وتخيُّلات تستدعي بطبعها مشاعر الحزن، وهذا هو معنى التحفيز والاستفزاز.

 

وقد يتمُّ التوظيف للمشاعر بواسطة الإيهام المعبَّر عنه في القرآن بالتزيين، قال تعالى على لسان إبليس: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾(17) فالشيطان يُخطِرُ في نفس الإنسان محاسنَ الفعل القبيح ويحرص على أنْ تظلَّ هذه المحاسنُ الوهميَّة حاضرةً في نفس الإنسان وهو في ذات الوقت يعمل على الإستغفال والتغطية على المساوئ الواقعيَّة المترتِّبة على ذلك الفعل أو التقليل من خطورة العاقبة التي تنشأُ عن ذلك الفعل القبيح أو يفتحُ له طرقاً ومكائدَ يزعم إنَّها سوف تُخلِّصه من خطورة العاقبة التي قد تنجم عن ارتكاب ذلك الفعل القبيح.

 

وبهذا تكون المحاسن والفوائد لذلك الفعل القبيح هي الحاضرة في ذهن الإنسان وهو ما يدفعه لارتكابه، لأنًّه إنَّما يُحجم عن ارتكاب الفعل القبيح – رغم شدة رغبته في مقارفته- بسبب ما يجده من قبحه وما يترتَّب على ارتكابه من عواقب وخيمة ينشأ عن تصوُّرها الزهدُ في مقارفة ذلك الفعل، فإذا خلت النفس من تصوُّر المساوئ المقبِّحة للفعل وحلَّت محلَّها المحاسن الوهميَّة للفعل وإطمئنت النفس بعدم ترتُّب الأخطار بزعم انَّه دبَّر للحيلولة دون وقوعها أو الخلاص منها لو اتَّفق وقوعها فحينذاك يتحفَّز الإنسان لارتكاب القبيح دون أن يجد في نفسه غضاضة من اقترافه.

 

وهكذا يتمكَّن الشيطان من إغراء الانسان بارتكاب القبائح فهو يدخل إليه من جهة ما هو كامن في نفسه من الرغبة في اشباع إحدى الغرائز فيُوقفه على الطريق المُفضي إلى اشباعها، وحيثُ ان هذا الطريق مستبشَع بمقتضى الفطرة ومحفوفٌ بالمكاره والعواقب الوخيمة لذلك يتصدَّى الشيطان لإضفاء المحاسن الوهميَّة على هذا الطريق حتى تزول عن النفس حالة الإستبشاع، وهذا هو معنى التزيين الوارد في قوله تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾(18) وقوله تعالى: ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾(19).

 

وحيثُ انَّ التزيين وحده قد لا ينشأ عنه الإقدام على اقتراف الذنب، وذلك لخشية الإنسان من الآثار السيئة والعواقب الوخيمة التي قد تنجُم عن الإقتراف للذنب لذلك يعمل الشيطان على اقناع الإنسان والمكرِ به وإيهامه بأنَّك قادرٌ على المنع والحيلولة دون وقوع المكاره والعواقب السيئة، فالمكاره والأخطار لا تُصيب الأذكياء اليقظين الذين يحتاطون لكلِّ عارضٍ قد يطرأ وأنت من هؤلاء الأذكياء، فلا تخش ولا تُمكِّن الخوف من نفسك فتفوِّت عليها ما تصبو إليه انسياقاً مع هواجسَ لا واقع لها إلا في أذهان الضعفاء من الناس وأنتَ لستَ منهم ، وهكذا لايزال به حتى يُوقعه في الذنب، وهذا هو مفاد قوله تعالى: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾(20) وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾(21).

 

الإنسان يتوهم انَّ حديث الشيطان من حديث النفس:

ثم إنَّ هنا أمراً تحسنُ الإشارةُ إليه وهو إنَّ الإنسان لا يشعر انَّ الأفكار الشيطانية التي تدور في خلَده والتسويلات وحديث النفس الذي يختلجُ في نفسه لا يشعر انَّ تلك الأفكار والتسويلات جاءته من طرفٍ خارجٍ عن ذاته بل يشعر إنَّ هذه الأفكار من بنات ذهنه وإنَّ المتحدِّث مع النفس هي النفسُ ذاتُها، فالشيطانُ لا يظهر في ذهن ونفس الإنسان في صورة الناصح أو المُرشد حتى يستبين للإنسان انَّ ثمة طرفاً خارجاً عن الذات يقوم بمخاطبة الذات بل إنَّ الشيطان يتوارى ويتقمَّص نفس الإنسان، فيتوهَّمُ الإنسان انَّه يتحدَّث مع نفسه، ويتوهَّم انَّ الأفكار التي يستحضرها هي من مخبوء أفكاره، والواقعُ انَّ الذي يُحادثه ويناجيه ويُخطر الأفكار في نفسه إنَّما هو الشيطان الذي تقمَّص ذاته، ولهذا وصفه القرآن بالخنَّاس في قوله تعالى: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) (22). فهو خنَّاسٌ لا يَبين، ووسيلتُه الوسوسة، وذلك بتوظيف المدارك والمشاعر الإنسانيَّة.

 

فهو مثلاً يختارُ صوراً وأفكاراً فيقومُ بتزريقها في ذهن ونفس الإنسان، ويتمُّ اختياره للصور والأفكار على أساس ما يعرفه من نوع التفاعل الذي تُحدثه تلك الصور والأفكار حينما تحضر في ذهن الإنسان، تماماً كما لو شاهد الإنسانُ مشهداً خارجيَّاً مثيراً للغضب أو مثيراً للشهوة أو السخرية فإنَّ طبيعة مداركه ومشاعره تقتضي التفاعل بنحوٍ خاص مع ذلك المشهد، فهذه المدارك والمشاعر هي مدارك الإنسان ومشاعره إلا انَّ الذي استفزَّها واستثارها هو ذلك المشهد. كذلك هو فعلُ الشيطان فهو يُحضر الصور والمشاهد والأخبار والأفكار التي يريدها في نفس الإنسان، وحينذاك تتفاعل النفس معها بالنحو الذي تقتضية طبيعتها، لذلك لا تشعر النفس انَّ عنصراً خارجاً عن ذاتها ساهم فيما تعتلجُ به تلك النفس من أفكار وهواجس ومشاعر. وهذا هو أحد معاني ما ورد في الحديث الشريف: “إنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم”(23) أو كما في نصٍّ آخر: “وهُوَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ”(24) فكما انَّ الإنسان لا يشعر بجريان الدم في عروقه رغم أثره البالغ على حياته كذلك هو فعل الشيطان في نفس الإنسان. أعاذنا الله تعالى من همزات الشياطين.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

 

1-سورة الإسراء الآية/62.

2– سورة ص الآيتان/82-83.

3– سورة الأعراف الآيتان/16-17.

4– سورة الأعراف الآية/27.

5– سورة الشعراء الآيتان/94-95.

6– سورة الإسراء الآية/64.

7– سورة السجدة الآية/11.

8– سورة الأنعام الآية/61.

9– سورة ق الآيتان/27-28.

10– سورة الشعراء الآيات/221-223.

11– سورة المؤمنون الآيتان/97-98.

12– سورة الأنعام الآية/71.

13– سورة الأنعام الآية/112.

14– بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 60 ص 150.

15– سورة آل عمران الآية/175.

16– سورة المجادلة الآية/10.

17– سورة الحجر الآية/39.

18– سورة الأنعام الآية/43.

19– سورة النحل الآية/63.

20– سورة النساء الآية/120.

21– سورة محمد الآية/25.

22– سورة الناس الآيتان/4-5.

23– بحار الأنوار -العلامة المجلس- ج 60 ص 268.

24– الكافي -الشيخ الكليني- ج 8 ص 113.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى