آية وتفسير

قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾

المسألة:

قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾(1)، هل كان النبي (ص) يعلم بجميع المنافقين واذا كان الجواب بالايجاب فما معنى هذه الآية المباركة؟

 

الجواب:

النفاق صفة نفسانية لا يمكن التعرُّف على مَن هو واجد لها إلا من طريقين:

الطريق الأول: ما يظهر على سلوك المنافق وكلامه من أمارات وعلائم تكشف عن مخبوء سريرته فيكون ذلك معبِّراً عن نفاقه، والتعرُّف على المنافق من هذا الطريق يتوقف على الاطلاع على سلوك المنافق وسقَطَات لسانه.

 

ثم إنَّ هذا الطريق لا يتيسَّر لكل أحد فهو يسترعي مستوىً من الفطنة والتمرُّس في معرفة أحوال النفس وطبيعة العلائق بين السلوك والمشاعر، كما أنَّ المنافقين متفاوتون من حيث القدرة على إخفاء ما يُبطنون، لذلك يكون استكشاف بعضهم أكثر صعوبةً من استكشاف آخرين نظراً لتفاوتهم في مستوى الفطنة والدهاء والقدرة على المحاذرة.

 

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الطريق في قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ / وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾(2).

 

فهذه الآية تعبِّر عن أنِّ النبي (ص) كان يعرف المنافقين من لحن قولهم ومن سيماء وجوههم.

 

الطريق الثاني: هو الوحي، فلأنَّ النفاق صفة نفسانيَّة فهي إذن من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، فالآية حينما أفادت ﴿لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾(3) تُشير إلى أنَّ العلم الذاتي بالغيب لا يُحيط به إلا الله جلَّ وعلا، فحتى الأنبياء فضلاً عن غيرهم لا يعلمون الغيب إلا أنَّ ذلك لا ينفي اطلاعهم على بعض المغيَّبات بواسطة الوحي الإلهي، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في آيات عديدة.

 

قال الله تعالى: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء﴾(4) وقال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا / إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾(5) وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء﴾(6) وقال تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا﴾(7) فالنبيُّ (ص) لم يكن يُشخِّص المنافقين الذي مردوا وتمَّرسوا في النفاق حتى لم يكد يظهر على سلوكهم وكلامهم وملامح وجوههم ما يُعبِّر عن واقع ما تكنُّه قلوبهم من كفرٍ وكيدٍ للدين إلا انَّ ذلك لا ينفي معرفته بهم بعد ذلك تفصيلاً بواسطة الوحي.

 

فقوله تعالى: ﴿لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾(8) إنَّما ينفي العلم الذاتي بالغيب عن النبيِّ (ص) ولا ينفي العلم الاكتسابي بواسطة الوحي.

 

وقد دلَّت رواياتٌ كثيرة من الفريقين(9) على انَّ النبيَّ (ص) كان يعلمُ بالمنافقين تفصيلاً، وكان قد أخبر بعض المؤمنين بأسمائهم أو بأسماء بعضهم.

 

الشيخ محمد صنقور

 

 

1– سورة التوبة آية رقم 101.

2– سورة محمد آية رقم 29-30.

3– سورة التوبة آية رقم 101.

4– سورة البقرة آية رقم 255.

5– سورة الجن آية رقم 26.

6– سورة آل عمران آية رقم 179.

7– سورة هود آية رقم 49.

8– سورة التوبة آية رقم 101.

9– بحار الأنوار- العلامة المجلسي- ج17 ص184، الاحتجاج- الشيخ الطبرسي- ج1 ص65، الهداية الكبرى- الحسين بن حمدان الخصيبي- ص82، تفسير القرآن- عبد الرزاق الصنعاني- ج2 ص282، أحكام القرآن- الجصاص- ج3 ص183، سير أعلام النبلاء- الذهبي- ج3 ص388.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى